الخميس، 27 ديسمبر 2018

حطبة: المسح على الخفين

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنُؤْمِنُ بِهِ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلا إِلَهَ إِلا اللَّهَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى وتعلموا من أحكام دينكم ما تستقيم به عبادتكم، فان الجهل مرض قاتل وشفاؤه بالتعلم والسؤال، يقول الله تعالى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)
فهناك من الناس من يعبد الله على جهل ويمنعه الخجل أو الكبر من السؤال.
وقد قال بعض السلف "لا يَتَعَلَّمُ العِلْم مُسْتَحيٍ ولا مُسْتَكْبِر".
وهناك يا عباد الله مسألة يحتاج منكم معرفتها، خصوصاً في الشتاء، ألا وهي مسألة المسح على الخفين أو الجوربين أو الشرابات.
اعلموا أن كل شيء يُمسح في الطهارة فإنه لا يُسن تكرار مسحه بل يُمسح مرَّة واحدة؛ لأنه كما خُفَّف فيه في الكيفيَّة فإنه خفَّف فيه في الكميَّة أيضًا
*فإذا كان على الرِّجلين خفٌّ أو جورب يعني شراب أو نحوهما مِمَّا يُلبس على الرِّجل فامسحوا عليه سواء كان من القطن أو الصوف أو الجلود أو غيرها مِمَّا يجوز لبسه وسواء كان متينا لا يُرى من ورائه الجلد أو كان رقيقًا وسواء كان سليمًا أو كان مخرّقًا مادام يسمّى خفًّا.
لأنه لم يرد عن النبي ﷺ فيها شيء من هذه الشروط وما جاء في الشرع مطلقًا فإنه لاينبغي أن يقيَّد بشروط.
ولكنْ لايجوز المسح على الجوربين والخفّين ونحوهما إلا بشروط:
الشرط الأول: أن يكون الملبوس طاهرًا فإن كان نجسًا لم يَجُز المسح عليه.
يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْخِفَافُ والجواربُ التِي يُمْسَحُ عَلَيهَا طاهِرَةً؛ فَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِهَا نَجَاسَةٌ؛ فَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا، إِلَّا بَعْدَ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنْهَا.
الشرط الثاني: أن يلبس ذلك على طهارة فإن لبس على غير طهارة لم يَجُز المسح , لقول النبي ﷺ للمغيرة بن شعبة حين أراد أن ينزع خفَّي النبي ﷺ « دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ » 
وفي هذا الحديث نصٌّ صريح على أن مَن عليه جوارب أو خفّان فإن السنَّة أن يمسح وأن لا يخلعهما ليغسل القدمين لقول النبي ﷺ للمغيرة: «دَعْهُمَا» .
الشرط الثالث: أن يكون ذلك في الحدث الأصغر.
الشرط الرابع: أن تكون ساترة للكعبين.
الشرط الخامس: أن يكون في المدة المحدودة شرعًا
وهي: يَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ وثلاثة أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ»
وهذه المدة تبتدئ من أول مرّة مسَحَ بعد الحدث على القول الراجح من أقوال العلماء؛
ولأن النبي ﷺ وقَّت المسح ولا يكون المسح واقعًا حقيقة إلا إذا مسح فعلاً؛ وعلى هذا فما مضى من المدة قبل المسح أول مرّة فإنه لا يُحتسب من المدة.
ولا عبرة بعدد الصلوات بل العبرة بالزمن، فالرسول ﷺ وقَّتها يوماً وليلة للمقيم، أربع وعشرون ساعة، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، اثنتان وسبعون ساعة.
فإذا تطهّر الرَّجل لصلاة الظهر مثلاً ولبس شرابات وصلى العصر على طهاره ثم توضأ لصلاة المغرب ومسح على الشرابات، فإن المده تبتدئ من صلاة المغرب فيمسح على الشرابات أو الجوربين حتى صلاة العصر لليوم الثاني ويخلعها قبل صلاة المغرب ويتوضأ هذا اذا كان مقيم, اما المسافر فتنتهي مدة المسح على الخفين او الشرابات بعد ثلاثة أيام.
‏● مَن مسح على الشرابات او الجوارب ثم خلعها بعد مسحها فطهارته باقية لا تنتقض بذلك؛ ولكن لا يلبسها مرة أخرى إلا بعد وضوء.
‏● وإذا لبس شرّابًا ومسح عليها ثم أراد أن يلبس عليها شرابًا أخرى فالمسح على الملبوس أولاً لأنه هو الذي لُبس على طهارة.
المسألة الثانية: إذا لبس الإنسان شرّابًا ثم مسح عليها ثم خلعها بعد المسح فإنه لا يُعيد المسح عليها مرَّة ثانية , لكنّه باقٍ على طهارته حتى تنتقض، فإذا أراد أن يتوضأ فإنه لا بُدَّ أن يغسل قدميه.
حتى لو فُرض أنه قد لبس شرّابتين ثم مسح على الشراب الثاني ثم خلعها لِخِفَّة البرد فإنه لا يمسح على الأولى؛ المهم أنه متى خُلِعَ الممسوح فإنه لا يمسح إلا بعد غسل القدمين في الوضوء .
المسألة الثالثة: إذا انتهت مدة المسح وانت على طهارة فلا يلزمك خلع الجورب أو الشراب ويجوز أن تصلي بها حتى بعد انتهاء المدة لكن لايجوز أن تمسح عليها بعد المدة.
المسألة الرابعة: يجوز المسح على الجورب والشُرَّاب الشفاف وكذلك يجوز المسح عليها حتى إذا كان فيها بعض الخروق.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين على فضله وإحسانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: اتقوا الله وحافظوا على صلواتكم ولا تتساهلوا في الطهارة فإنها شرط من شروط الصلاة لا تصح الصلاة إلا بالطهارة.
عباد الله: إن طريقةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ: أنْ يُبَلِّلَ كفيه بالْمَاءِ، ثُمَّ يُمِرُّهَا مِنْ على رؤوسِ أصَابِعِ قَدَمَيْهِ، مَعَ جَرِّهَا إِلَى بِدَايَةِ سَاقِهِ خَطًّا بِأَصابِعِهِ، والأفضلُ أنْ يضَعَ يَدَهْ اليُمْنَى عَلَى خُفِّهِ الأيمنِ، ويدَهُ اليُسرَى عَلَى خُفِّهِ الأيسرِ، ثُمَّ يَمْسَحُ على قدميه مَسْحَةً واحِدَةً، في وقٍت وَاحِدٍ. وقَالَ أحمدُ رحِمَهُ اللهُ: (وكيفَمَا فَعَلْتَ؛ فَهُوَ جَائِزٌ بيدٍ وَاحِدَةٍ، أَو باليدَيْنِ).
الْمَسْحُ يَكونُ عَلَى ظاهِرِ الخفينِ، دُونَ باطنِهِمَا.
● السُّنَّةُ أنْ يَمسحَ عَلَى خُفَّيْهِ مَسْحَةً واحدَةً، وَلَا يُكَرِّرُ المسحَ.
● والسُّنَّةُ أن يكون المسح باليدين جميعاً، على الرجلين جميعاً،
يعني: اليد اليمنى تَمسح الرِّجل اليمنى واليد اليسرى تمسح الرِّجل اليسرى في نفس اللحظة، كما تُمسح الأذنان، لأن هذا هو ظاهر السنة. ابن عثيمين
● لا يَلْبَسُ الْخُفَّ الأَيْمَنَ إِلَّا بَعْدَ غَسْلِ القدمَ اليُسرَى.
● لَيْسَ شَرْطًا، أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ لِبْسِ الْخِفَافِ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا؛ فَلَوْ لَبِسَهُمَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ المسحِ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ عَلَيْهِمَا؛ لَصَحَّ مَسْحُهُ.
● إِذَا تَيَمَّمَ ثَمَّ لَبِسَ الْخُفَّ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيهِ إِذَا وَجَدَ الْماءَ؛ لأَنَّ لِبْسَهُ للخُفِّ هُنَا لَمْ يَكُنْ عَلَى طَهَارَةٍ أَصْلِيَّةٍ، بَلْ كَانَ عَلَى طَهَارَةِ بَدَلٍ، تَزُولُ بِزَوَالِ سَبَبِهَا، وَقَدْ زَالَ بِحُصُولِهِ عَلَى الْمَاءِ، أَوْ قُدْرِتِهِ عَلَى اِسْتِعْمَالِهِ .
● لَا يُجْزِئُ غَسْلُ الْخُفِّ عَنْ مَسْحِهِ؛ إِلَّا إِذَا أَمَرَّ يَدَيْهِ علَى الْخُفَّيْنِ أثنَاءَ الْغَسْلِ؛ فَلَعَلَّهُ يُجْزِئُ.
● لَا يجوزُ الْمسحُ على قدمٍ، وغَسْلُ أخرَى؛ كَمَنْ يَلبسُ الخفَّ في قدمٍ، ويجعلُ الأخرَى مكشوفةً، إلا إذَا كانتْ الَّتِي عَلَى القَدَمِ جَبِيرَةً؛ فَإِنَّهُ يِمْسَحُ عَلَيْهَا كَجَبِيرَةٍ، لَا كَخُفٍّ.
● يجوزُ للمُستحَاضَةِ، ومَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ، واستِطْلَاقُ الرِّيحِ؛ المسحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، إذَا لَبِسَهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ؛ بلْ هُمْ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي الأَخْذِ بِهَذِهِ الرُّخَصِ.
وتذكروا دائماً أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام نبيكم، فقال جل جلاله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن جميع الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم تقبل منا صلاتنا وصالح أعمالنا واختم بالصالحات أعمالنا
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا،
وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء،
اللهم من أراد بلادنا أو بلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه وأجعل تدبيره تدميراً عليه
اللهم اربط على قلوب رجال أمننا وانصرهم على من عاداهم وثبت اقدامهم وتقبل شهدائهم يارب العالمين
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين ودمِّر أعداء الدين، وجميع الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم أنصر أهل السنة في العراق وسوريا واليمن اللهم انصرهم على الطغاة الظالمين المعتدين
اللهم واربط على قلوبهم وثبت أقدامهم ووحد صفوفهم وكلمتهم على الحق يارب العالمين
اللهم وأنصر المسلمين في كل مكان ياقوي يا عزيز
اللهم انصر دينكَ، وكتابكَ، وسنةَ نبيِّك محمدٍ ﷺ وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
وأسأل الله أن يوفقنا والمسلمين جميعاً للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذنا جميعاً من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه جواد كريم.
والحمدلله رب العالمين.

بتصرف من خطب الشيخ عبدالله بن رجا الروقي

الخميس، 20 ديسمبر 2018

خطبة: آية الكرسي فضلها وتفسيرها.

أما بعدُ: أَمَّا بَعدُ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عز وجل، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي القُرءَانِ الكَريمِ: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أولئِكَ كَانَ عنهُ مَسئُولاً
أيها الإخوة: لقد فضل الله عز وجل بعض السور، كما فضل بعض الآيات، وإن أعظم آية في القرآن، هي آية الكرسي، فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ " قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ " قُلْتُ : اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، قَالَ : فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ : لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ".
هنأه النبي ﷺ على هذا العلم الذي حواه صدره، فهو أقرأ الأمة بكتاب الله، ولم تكن قراءته دون علم، بل لقد علم أعظم آية، لما فيها من صفات لله عز وجل ولما تحويه من أسماء الله، فهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة، وقد اشتملت على جميع أقسام التوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
قال النووي في شرح مسلم : قال العلماء: إنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والملك والقدرة والإرادة، وهذه السبعة أصول الأسماء والصفات. اهـ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾.
فقوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) إخبار بأنه المنفرد بالألوهية لجميع الخلائق، فلا معبود بحق إلا هو سبحانه، وهو المستحق للعبادة ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره ولا قوام للموجودات بدون أمره، وقد وردت أحاديث تبين أن اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب في هذه الآية آية الكرسي ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌيعني: لا تصيبه ولا تعتريه سنة وهي النعاس وهي النوم الخفيف، ولا نوم وهو النوم الثقيل، فلا يعتريه غفلة ولا نعاس ولا نوم ولا موت، بل حياته كاملةﷻ. قال ﷺ: (إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ…إلخ). مسلم.
ثم قال تعالى ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِإخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه.
ثم قال سبحانه ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ كقوله تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى وكقوله تعالى ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وهذا من عظمته وكبريائه وجلاله عز وجل وأنه لا أحد يستطيع يشفع إلا بإذنه سبحانه، يعني: يوم القيامة لا يتقدم أحد يشفع حتى النبي محمد ﷺ إلا بإذنه تعالى، حتى يأذن له، وما ذاك إلا لعظم مقامه وجبروته وكونه سبحانه المستحق لأن يعظم ويجل وأن لا يتقدم بين يديه إلا بإذنه كما جاء في حديث الشفاعة عن النبي ﷺ الذي قال فيه: (فَأَنْطَلِقُ حَتَّى آتِيَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ مِنْ قَبْلِي ثُمَّ يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ) فالشفاعة لا تكون لمن رضي الله قوله وعمله، وهم أهل التوحيد والإيمان، هم الذين يشفع فيهم الأنبياء، أما أهل الشرك فلا شفاعة لهم، كما قال تعالى: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾.
ثم قال سبحانه ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ هذا دليل على إحاطة علم الله بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كما قال تعالى إخباراً من الملائكة، فهو العالم بأحوال عباده لا يخفى عليه خافية جل وعلا، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ما مضى وما يأتي، ويعلم أحوال عباده الماضين والآخرين، ويعلم كل شيء: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
ثم قال سبحانه ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل كما قال سبحانه: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا
فلا أحد يعلم الغيب إلا الله، كما قال الله : ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾، وقال تعالى لنبيه ﷺ في سورة الأعراف: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) والرسل إنما يعلمون ما جاءهم به الوحي، فما أوحى الله به إليهم يعلمونه، كما قال : ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾.
ثم قال سبحانه ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل النبي ﷺ عن قول الله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فقال: (الكُرْسِيُّ موضعُ القدمينِ، والعرشُ لا يقدرُ أحدٌ قدْرَه) وقال ﷺ (ما السَّماوات السَّبع في الكرسيِّ إلا كحلقةٍ مُلقاةٍ بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسيِّ كفضل تلك الفلاةِ على تلك الحلقة) وسميت بآية الكرسي لذكر الكرسي فيها.
ثم قال سبحانه ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ أي لا يثقله ولا يتعبه حفظ السموات والأرض سبحانه وتعالى، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو قائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة إليه وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم، لا إله إلا هو ولا إله غيره ولا رب سواه.
ثم قال سبحانه ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ فهو العلي علو منزلة وعلو قهر وسلطان، وهو العظيم سبحانه وتعالى الكبير المتعال لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. أ.هـ.

الخطبة الثانية
أما بعد: أما بعد عباد الله فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي العظيم القائل في محكم كتابه: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
عباد الله: لآية الكرسي أوقات يستحب أن تقرأ فيها منها أدبار الصلوات الخمس؛ قال ﷺ: (مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ).
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: " يستحب بعد الصلاة ، بعد التسبيح والتهليل قراءة آية الكرسي ، ويرجى له بذلك دخول الجنة إذا استقام ، إذا استقام على دينه ، وحافظ على دينه ، يرجى له دخول الجنة"
وتقرأ عند النوم ؛ وفي الصباح والمساء.
* فحري بالمسلم أن يتعلمها ويحفظها ، ويتدبر معناها ، ويعمل بمقتضاها، ويحافظ على قراءتها في مواطنها كي ينعم بفضلها.
اللهم إنا نسألك ن تجعـل القرآن الكريم ربيعَ قلوبنا .. ونورَ صدورنا ..وجَلاء حُـزننا .. وذهاب هـمِنا وغـمِنا .
ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة و في اللآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عبادَ اللهِ ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا.

الجمعة، 14 ديسمبر 2018

تحسر المؤمنين على تأخير الصلاة "فتح تستر"

أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون فإن التقوى هي عنوان الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة ، قال عز وجل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وقال عز وجل : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) وأخبر أنه سبحانه مع المتقين، فقال : (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) وأنه وليهم ، فقال : (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) وأن العاقبة للمتقين، فقال : (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وأنهم أهل النجاة والفوز في الدنيا والآخرة، فقال : (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) وقال : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) وقال : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) والمتقون من المؤمنين هم أولياء الله ، (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) التقوى هي فعل ما أمر الله به ، وترك ما نهى عنه .
أيها المسلمون: في السنة السادسة عشرة للهجرة عقد الهُرمُزانُ قائد الفرس عهوداً مع أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه،بأن لا يقاتلهم، وأن يدفع الجزية، ولكن "الهُرمُزانُ" قائدُ الفُرسِ كان يحنث بعهوده في كلّ مرةٍ، وحين علم عمر بن الخطاب بنقضه العهد للمرة الثالثة أمر أبي موسى الأشعري أن يقود الجيوش لقتال الفرس فهرب الهُرمُزانُ حتى تَحَصَّنَ في مدينةَ تسمى "تُسْتَرَ" وما أدراكَ ما "تُسْتَرَ"؟ كانتْ من أعظمِ الحُصونِ الفارسيةِ على الإطلاقِ، بُنيَّتْ في منطقةٍ عاليةٍ، وحَولُها سورٌ ضخمٍ عَالٍ، وعلى السورِ أبراجٌ عاليةٌ، وحولُ السورِ خَندقٌ عظيمٌ مملوءٌ بالماءِ.
ومن رأى صُوَرَ مدينةَ: "تُسْتَرَ" رأى مدينةً تجري من تحتِها الأنهارُ، وبداخلِ المدينةِ الزروعُ والطعامُ؛ لذلك كانت لديهم قدرةٌ كبيرةٌ على الصبرِ على حصارِ المُسلمينَ.
بدأَ المسلمونَ في حصارِ الفرسِ، وكانَ من أشدِ حصاراتِ المسلمينَ، وكانَ الفرسُ يرمونَ المسلمينَ بالسهامِ من فوقِ الأبراجِ، ولا تصلُ سهامُ المسلمينَ إلى أعلى البرجِ!.
عانى فيها الجيشُ الإسلاميُ من البردِ والجوعِ و القتالِ المستمرِ مع الفرسِ ثمانيةَ عشرةَ شهراً!.
تذكّرَ المسلمونَ بعدَ أن ضاقَ الأمرُ عليهم أن معهم رجلاً قالَ عنه النبيُ ﷺ: "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ أي ذي ثوبينِ قديمينِ- لاَ يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ".
فذهبَ المسلمونَ إلى البراءِ بنِ مالكٍ -رضي الله عنه- قائلينَ له: "يا براءُ، ألا تَرى ما نحنُ فيه؟ أَقْسِمْ على ربِك، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ لَنَا، وَاسْتَشْهِدْنِي".
في ذلك الأثناءِ طلبَ رجلٌ من أهلِ البلدِ الأمانَ من أبي موسى فأمَّنَه، فدلَّ المسلمين على مكانٍ يدخلون منه إلى البلدِ، وهو من مدخلِ الماءِ إليها، فندبَ الأمراءُ الناسَ إلى ذلك، فانتدبَ رجالٌ من الشُجعانِ والأبطالِ، وجاءوا فدخلوا مع الماءِ كالبَطِّ إلى البلدِ، وذلك في الليلِ، وجاءوا إلى البوابينَ فقتلوهم وفتحوا الأبوابَ، وكبَّرَ المسلمون فدخلوا البلدَ، وذلك في وقتِ الفجرِ إلى أن -تعالى- النهارُ، ولم يُصلُّوا الصبحَ يومئذٍ إلا بعدَ طلوعِ الشمسِ.
التقى المسلمون مع الفرسِ في معركةٍ من أعنفِ المعاركِ في الفتوحاتِ الفارسيةِ، ثلاثونَ ألفَ رجلٍ من المسلمينَ ضدَ مائةٍ وخمسينَ ألفَ رجلٍ من الفرسِ في أرضٍ مفتوحةٍ، وكان قتالاً رهيباً.
واستجاب الله سبحانه وتعالى لدعوة البراء بن مالك فاستشهد في هذه المعركة على يد قائد الفرس  "الهُرمُزانُ".
أنس بن مالك رضي الله عنه كلما تذكر هذه المعركة بكى بكاءً شديدا
فلماذا يبكي أنس بن مالك رضي الله عنه عندما يتذكر موقعة تستر ؟!
لماذا يبكي والمسلمون قد انتصروا انتصارا عظيما ؟!
لقد تم فتح باب حصن تستر قبل صلاة الفجر بساعات ، وانهمرت الجيوش الإسلامية داخل الحصن، ودارتْ معركة عظيمة بين ثلاثين ألف مسلم ، ومائة وخمسين ألف فارسي ، وكان قتالاً شرسا، وكانت كل لحظة في هذا القتال تحمل الموت، وتحمل الخطر على الجيش المسلم ،،
ولكن في النهاية – بفضل الله - كتب الله النصر للمؤمنين ، وانتصروا على عدوهم انتصاراً باهراً، وسلَّمَ الهُرمُزانُ نفسَه للمسلمينَ، وكان هذا الانتصار بعد لحظات من شروق الشمس.
وأدرك المسلمون أن صلاة الصبح قد ضاعت في ذلك اليوم الرهيب، لم يستطع المسلمون في داخل هذه الأزمة الطاحنة والسيوف على رقابهم أن يصلوا الصبح في موعده، لم يكن بمكاؤه من أجل استشهادِ أخيه البراء بن مالك!
أتعلمون لماذا كان يبكي؟ كان يبكي لضياع صلاة الصبح مرة واحدة في حياته، يبكي وهو معذور، وجيش المسلمين معذور، وجيش المسلمين مشغول بذروة سنام الإسلام مشغول بالجهاد لكن الذي ضاع شيء عظيم.
يقول أنس رضي الله عنه : وما تستر ؟! لقد ضاعت مني صلاة الصبح، ما وددت أن لي الدنيا جميعاً بهذه الصلاة !!
وكان يقولُ: "شهدتُ فتحَ "تُسترَ"، وذلك عند صلاةِ الفجرِ، فاشتغلَ الناسُ بالفتحِ فما صلَّوا الصبحَ إلا بعدَ طلوعِ الشمسِ، فما أُحبُ أن لي بتلكَ الصلاةَ حُمْر النِّعَمِ".  
وأبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- كانَ يقولُ بعدَ موقعةِ "تُسْتَر": "والله لقد ضُيِّعَتْ علينا صلاةُ الصبحِ، لصلاةُ الصبحِ عندي خيرٌ من ألفِ فتحٍ".
اللهُ أكبرُ، يتألمونَ على صلاةِ فجرٍ واحدةٍ أخَّروها، بسببِ الجهادِ في سبيلِ اللهِ -تعالى-، هنا ندرك لماذا كان ينتصر هؤلاء، هنا نعلم كيف كانوا يعظمون الصلاة؟
الصحابة رضوان الله عليهم ضحوا بحياتهم فى سبيل الله، فهل نستطيع أن نضحي بلذة النوم من أجل صلاة الفجر ؟ إذا لم نستطع فأي نصر نأمل ؟!
هذه الصلاة العظيمة التي سنتها خير من الدنيا ومافيها ، فكيف بها هي إذن ؟!
قال ﷺ كما عند مسلم من حديث عائشة: "رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" .
كانَ عمرُ بنُ الخطابِ -رضي الله عنه- يقولُ للجيوشِ الإسلاميةِ: "إنكم تُنصَرونَ عليهم بطاعتِكم للهِ ومعصيتِهم للهِ، فإن تساويتم في المعصيةِ كانت لهم الغلبةُ عليكم بقوةِ العُدَّةِ والعَتادِ".
عبادَ اللهِ: إن صلاةَ الفجرِ تشتكي جفاءَ كثيرٍ من المسلمينَ، وبعدَ أقلِ من ساعةٍ تجدِ الناسَ قد خرجوا من بُيوتِهم سِراعاً إلى أعمالِهم وأسواقِهم ومدارسِهم وجامعاتِهم، وكأنَ شيئاً لم يكنْ، يتسابقونَ إلى دفاترِ التحضيرِ، وقد غفلوا عن التحضيرِ الأعظمِ، عندما يَصعدُ الملائكةُ الكِرامُ بصُحُفِهم البيضاء، ويقفونَ بين يَدي خالقِ الأرضِ والسماءِ، وعالمِ الجهرِ والخفاءِ: "فَيَسْأَلُهُمُ -وَهُوَ أعْلَمُ بِهِمْ- كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادي؟ فَيقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ".
فلا إله إلا اللهُ، من غابَ عن ذلكَ التحضيرِ فماذا يُفيدُه؟ ومن سقطَ اسمُه من تلك الصُحُفِ فمن يُعيدُه؟
ألم يقل النبيﷺ: "مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ في ذِمَّةِ اللهِ".
وأنت قد صليتَ الفجرَ في المسجدِ ذلك اليومُ، فلا يَضرُكَ شيءٌ ولو انطبقت الأرضُ على السماءِ، وكُلنا نحتاجُ إلى هذا الأمانِ في هذا الزمانِ الذي كَثُرتْ فيه الفِتَنُ، وتعاظمتْ فيه المِحَنُ، وأصبحتْ الأخطارُ تُحيطُ بالإنسانِ في كلِ أوانٍ ومكانٍ.
لا يستطيعُ المسلمُ العزيزُ أن يتخيل، مجرد تَخَيُّل، ذلك الموقفَ المَهِينَ، من ذلك العدو الحقيرِ، عندما ينامُ عن صلاةِ الفجرِ، ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ نَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ: "ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ".
نحتاجُ في هذا الزمانِ إلى الطالبِ النشيطِ، ونحتاجُ إلى الموظفِ الطيبِ النفسِ، فكيفَ تتحققُ تلك الأخلاقُ إذا لم يبدأ صاحبُها يومَه بصلاةِ الفجر؟ قالَ ﷺ: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ".
يقولُ ابنُ عمرَ -رضي الله عنهما-: "كنا إذا فقدنا الرجلَ في صلاةِ الفجرِ أسأنا به الظنَ".
أتعلمونَ لماذا؟ لأن النَّبِيُّ ﷺ قال: "لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ".
فإيَّاك وصفاتِ المنافقينَ، فإن منازلَهم في الدركِ الأسفلِ النار.

الخطبة الثانية:
أما بعد: فاتقوا الله واعلموا أنه مما يزيد التقوى في القلوب : اجتهاد الإنسان في طاعة الله تعالى ، فإن الله يكافئه على ذلك بزيادة الهداية والتقوى ، فيعينه على القيام بما أمر الله به ، ويفتح له من أبوب الخير والطاعات وييسرها له ما لم يكن يسيرا عليه من قبل . قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ)
عباد الله: قال الله تعالى ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ هذا خطاب من الباري إلى البرية، ليوقظ فيها نور الفطرة ويشعل جذوة الإيمان، ومن أحسن من الله قيلا؟ فحينَ يُعطى العبادُ النورَ على قدرِ أعمالِهم: "مِنْهُم مَن يُعطى نُورَه مثلَ الجبَلِ بين يَديْه، ومِنْهُم مَن يُعطَى نُورَه مثل النَّخلةِ بِيَمينه، حتَّى يكونَ آخرُ ذلك يُعطَى نُورَه على إبهامِ قَدَمه، يُضيءُ مَرَّةً ويَطفأُ مَرَّةً، فإذا أضاءَ قدَّمَ قَدَمه، وإذا طَفئ قامَ" يأتي من مشى في الظلامِ إلى صلاةِ الفجرِ، بالنورِ التامِ يومَ الحشرِ؛ كما بشَّرَه الحبيبُ ﷺ: "بشِّرِ المشَّائِينَ في الظُّلَمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التَّامِّ يومَ القيامةِ".
وعندما يُؤتى بجهنمَ تُقادُ من الملائكةِ العِظامِ، لها سبعونَ ألفَ زمامٌ، فلك يا صاحبَ الفجرِ أمانٌ، بتلكَ الصلواتِ التي قَدَّمتَ في سالفِ الزمانِ: "لنْ يَلِجَ النَّارَ مَن صلَّى قبْلَ طُلوعِ الشَّمسِ وقبْلَ غُروبِها".
ثم يكونُ مع الذين قالَ اللهُ -تعالى- فيهم: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا).
لأن النبيَ ﷺ قالَ: "مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ". والبردانِ: صلاةُ الفجرِ والعصرِ.
ليسَ دخولَ الجنةِ فقط، بل تحصيلُ أعظمَ ما فيها النعيمِ، وهو النظرُ إلى وجهِ العزيزِ الرحيمِ، يقولُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: "أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لَا تُضَامُّونَ أَوْ لَا تُضَاهُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا". وانتبِه إلى قولِه: "فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا".
وكأنَ الأمرَ سيكونُ مُغالبةً ومنافسةً بينَ المسلمينَ، وتزاحماً شديداً على أبوابِ المساجدِ، إذا علموا فضلَ صلاةِ الفجرِ وما فيها من الأجورِ العظيمةِ، فهل ترونَ هذا في واقعِنا المؤلمِ؟.
اللهم أيقظَ قلوبَنا من الغَفَلاتِ، وطهِّر جوارحَنا من المعاصي والسيئاتِ، ونقِّ سرائرَنا من الشُرورِ والبلِّياتِ.
اللهم اختمْ بالصالحاتِ أعمالَنا، وثبتنا على الصراطِ المستقيمِ بالقولِ الثابتِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ.
اللهم اجعلنا من المتقينَ الذاكرينَ الذين إذا أساؤوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا.
اللهم انصر إخوانَنا المجاهدينَ في سبيلِك في كلِ مكانٍ، الذين يريدونَ أن تكونَ كلمتُك هي العليا، اللهم ثبتهم وسددهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وارفع درجاتهم.
اللهم آمِنّا في أوطانِنا، وأصلح ووفق أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.