الخميس، 28 فبراير 2019

خطبة: الخوف من الله تعالى

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وخافوه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾
فقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ووحدوه، اتقوا الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
وقوله: ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ يقول: ولينظر أحدكم ما قدّم ليوم القيامة من الأعمال، أمن الصالحات التي تنجيه أم من السيئات التي توبقه؟
وقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ يقول: وخافوا الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، إن الله ذو خبرة وعلم بأعمالكم خيرها وشرّها، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميعها.
عباد الله: إن الخوف من الله تعالى واجب على كل مؤمن ومؤمنة؛ كما قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.
ويُعرَّف الخوف: بأنه تألُّم القلب واحتراقُه بسبب توقُّع مكروهٍ في المستقبل، وهو الذي يكفُّ الجوارحَ عن المعاصي، ويُقيِّدها بالطاعات.
قال النبي ﷺ: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ [أي: سار من أول الليل]، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ». والمعنى: أنَّ مَنْ خاف اللهَ تعالى ألْزَمَه الخوفُ السلوكَ إلى الآخرة، والمبادرةَ بالأعمال الصالحة؛ خوفاً من القواطع والعوائق.
عباد الله: نعلم جميعاً أنَّ النبي ﷺ غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك كان أشدَّ الناس خشيةً لله تعالى، فعَنْ أَنَسٍ –رضي الله عنه– قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، فقَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ؛ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ». قَالَ أنسٌ رضي الله عنه: فغَطَّوْا رُءُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ. [الخنين: هو البكاء مع غُنَّة بانتشار الصوت من الأنف].
ومعنى الحديث: لو علمتم ما أعلمه من عظمة الله تعالى وانتقامه ممن يعصيه؛ لطال بكاؤكم وحُزنكم، وخوفكم مما ينتظركم، ولَمَا ضحكتم إلاَّ قليلاً.
والخوف من الله تعالى ليس قاصراً على الأنبياء والبشر؛ فقد قال الله تعالى في خوف الملائكة منه سبحانه: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾. وقال أيضاً: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَكَذَلِكَ جَعَلَ الْخَوْفَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ النَّافِعَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ الْعَمَلُ.
إخوة الإسلام: إن كثيرا من أوجه الخلل والتقصير في حياتنا ومظاهر المعصية لربنا نابعة من ضعف مقام الخوف والرهبة من الله -عز وجل-، فهل يتكاسل عن الصلاة ويتخلف عن أدائها عبد عمر قلبه بالخوف من الله؟ وهل يغلب لذة النوم والفراش على لذة الوقوف بين يد الله -عز وجل- في صلاة الفجر مع جماعات المسلمين إلا عبد خلا قلبه من الخوف والخشية التامة لمولاه -عز وجل-؟.
أولئك الذين يعقون والديهم، أولئك الذين يقطعون أرحامهم ويؤثرون مصالح دنياهم على بر والديهم وصلة أرحامهم، هل ذاقوا -بربكم- لذة الخوف من جلال الله وعظمته؟!.
أكَلة الربا والذين يظلمون الناس في أعراضهم وأموالهم وحقوقهم وأبدانهم، أتراهم استشعروا الخوف من ملك الملوك وجبار الأرض والسماوات؟!.
أتراهم يستشعرون مقام الخوف بين يدي الله -عز وجل- يوم (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، ويوم يرون (الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
عبَدة الشهوات العاكفون على اللهو والمجون ومشاهدة ما يبغضه الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- مما يعرض بالشاشات والقنوات، ومُدخلو القنوات الإباحية إلى منازلهم وغيرها لتؤثر في أبنائهم وأسرهم، ما مقدار الخوف من الله في قلوبهم وهم يقدمون على محارمه -سبحانه- وانتهاك حدوده؟!.
عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ قوله تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ فَقُلْتُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَزْنُونَ، وَيَسْرِقُونَ، فَقَالَ: (لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَيَخَافُونَ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ).
أيها الإخوة المسلمون: ما أشد حاجتنا إلى إحياء معاني الخوف من الله في نفوسنا؛ حتى تستقيم حياتنا، وتصح أوضاعنا!.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ).
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المسلمون؛ إن الذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصيته، فإذا أقدم على معصية بحكم ضعفه البشري أو وقعت منه كبوة أو هفوة قاده خوف مقام ربه، هذا المقام الرهيب الجليل، قاده إلى الندم، قاده إلى الاستغفار والتوبة، فظل في دائرة الطاعة والخشوع.
روى عطاء -رضي الله عنه- أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- ذكر ذات يوم وفكر في القيامة والموازين والجنة والنار وصفوف الملائكة وطي السماوات ونسف الجبال وتكوير الشمس واندثار النجوم، فقال -رضي الله عنه-: "وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ خَضِرًا مِنْ هَذِهِ الْخَضِرِ، تَأْتِي عَلَيَّ بَهِيمَةٌ فَتَأْكُلُنِي وأني لم أخلق؛ فَنَزَلَ قول الله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)".
إن عباد الله الخائفين من ربهم -عز وجل- الذين عبروا إلى ضفة النعيم والتكريم بعد أن كفوا أنفسهم عن الهوى، وضبطوها بالصبر على إيثار الخيرات، ولم يغتروا بزخارف الدنيا، لهم ما وعدهم ربهم بقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، وقوله -سبحانه-: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
إن الله -سبحانه وتعالى- ينفي عنهم أهوال القيامة وخوفها، لا خوف عليهم من الضلالة في الدنيا، ولا حزن من الشقاوة في الآخرة؛ لأنهم ساروا في دنياهم على الصراط المستقيم، فأخبرهم ربهم بالأمن والأمان في يوم الخوف الرهيب.
إن الخوف من الله -أيها الإخوة في الله- ليس هربا من الله -سبحانه وتعالى-، أو إعراضا عنه؛ بل هو إحساس بعظمته -سبحانه-، وهيبته، ورهبته، وجلاله؛ فيزداد العبد في الطاعة والاعتصام بحبل الله -تعالى-.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا بالبر والتقوى.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ ﷺ اللهم أرضى عن خلفائه الراشدين وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى أفضل أتباع المرسلين وعن بقية الصحابة أجمعين
اللهم أرضى عنا معهم وأصلح أحوالنا كما أصلحت أحوالهم يا رب العالمين.
وعليك اللهم بمن انتقص من عرض رسولك في شخصه أو زوجاته أو صحابته عليك اللهم بهم.
اللهم توفنا على ملته اللهم احشرنا في زمرته اللهم أدخلنا في شفاعته اللهم اسقنا من حوضه.
اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى
اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، وجنبنا الفواحش والآثام.
اللهم طهر قلوبنا وارزقنا المحبة والألفة والتعاون على البر والتقوى.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء.
اللهم من أراد بلادنا أو بلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه وأجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم أنصر الإسلام والمسلمين اللهم انصرهم في الشام والعراق واليمن وفي كل مكان.
اللهم ارحم اخواننا في مصر اللهم ارحم موتاهم واربط على قلوب ذويهم واجبر مصابهم وأصلح احوالهم.
اللهم احفظ اخواننا في السودان اللهم وحد صفوفهم وأصلح أمرهم واحفظ أمنهم.
اللهم احفظ المسلمين في باكستان وكشمير وبورما وفي كل مكان يارب العالمين.
اللهم انصر دينكَ، وكتابكَ، وسنةَ نبيِّك محمدٍ ﷺ، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
عباد الله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾

الخميس، 21 فبراير 2019

موعظة وذكرى ( خطبة )

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
أما بعد: عبادَ الله: فإنَّ خير ما يُوصِي به المسلمُ أخاه أن يَحُضَّه على العمل للآخِرة، وأن يأمرَه بتقوى الله، فابتغوا فيما آتاكم الله الدارَ الآخرة، ولا تنسوا نصيبَكم من الدنيا، وتحلَّوا بتقوى الله، واحذروا ما حذَّركم الله من نفْسِه، ولا أفضلَ مِن ذلك موعظة، ولا أفضل مِن ذلك ذِكرى، ومَن يُصلِح الذي بينه وبين الله مِن أمر السر والعلانية لا يَنوي بذلك إلا وجْهَ الله، يَكُنْ له ذِكرى في عاجلِ أمره، وذُخرًا فيما بعدَ الموت حين يفتقر المرءُ إلى ما قدَّم، ومَن كان سوى ذلك يَودُّ لو أنَّ بيْنه وبيْنه أمدًا بعيدًا، ويُحذِّركم الله نفْسَه، والله رؤوف بالعِباد.
والذي صَدَق قوله، وأنْجَز وعْدَه لا خُلْفَ لذلك، فإنه تعالى يقول: ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [ق: 29].
أيها الناس: تحلَّوا بتقوى الله في عاجلِ أمركم وآجِله؛ فإنه ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2 - 3]، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4]، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5].
ألاَ وإنَّ تقوى الله تعالى تقِي مقْتَه وعذابَه وسخطَه، ألاَ وإنَّها بياض للوجه، ورِفعة للدَّرجة، ومرضاة للرَّبّ.
معشر المسلمين: أحبُّوا الله لِمَا يرزقكم مِن نِعمه، ولما يترادف عليكم - مصبحين وممسين - مِن ألوان جُودِه وكَرمِه، أحبُّوا الله مِن كلِّ قلوبكم، وأحبوا مَن أحبَّ الله حبًّا فيه، ولا تملُّوا كلامَ ربِّكم وذِكْرَه، فتَقْسو قلوبكم، ولا تُفرِّطوا في أوامر الله، فقد عَلَّمكم كتابه، ونهَج لكم سبيله؛ ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 3]، وأحْسِنوا في عبادة ربِّكم وإلى عِبادِه؛ ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الحج: 78]، ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42].
أيها الناس: إنَّ هذه الدنيا دارُ الْتواء لا دار استواء، ومنزل ترَح لا منزل فرَح، مَن عرَفها - حقَّ معرفتها - لم يفرحْ لرخاء، ولم يحزن لشقاء، ألاَ وإنَّ الله تعالى قد خَلَق الدنيا دارَ بلوى، والآخِرة دارَ عُقبَى، فجعل بلوى الدنيا لثوابِ الآخِرة سببًا، وثواب الآخِرة مِن بلوى الدُّنيا عوضًا، فيأخذ سبحان ليُعطي، ويَبتلي ليجزي.
ألا وإنَّ الدنيا سريعةُ الذَّهاب، وشيكةُ الانقلاب، وتفرَّغوا مِن هموم الدنيا ما استطعتُم؛ فإنَّه "مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ"، وإنَّ "لِكُلِّ امْرِئٍ رِزْقًا هوَ يَأْتِيهِ لا مَحالَةَ فَمَنْ رَضِيَ به بُورِكَ لهُ فيه فَوَسِعَهُ ومَنْ لَمْ يَرْضَ بِه لمْ يُبارَكْ لهُ فيه فَلَمْ يَسَعَهُ إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الرجُلَ كما يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ، "وَلاَ يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إلاَّ بِطَاعَتِهِ"، ومَن أخَذ مِن الدنيا فوق ما يَكفيه أَخذ حتْفَه وهو لا يشعر، وما سكَن حبُّ الدنيا قلبَ عبْد إلا التاط منها بثلاثِ خصال: شُغل لا ينفكُّ عَناه، وفَقْر لا يُدرَك غِناه، وأمل لا يُدرَك منتهاه.
فاعتنوا بنصيبِكم مِن الآخرة، تُدركوا الدنيا والآخِرة، فإنَّه مَن بدأ بنصيبه مِن الدنيا، فاتَه نصيبُه مِن الآخرة، ولم يُدركْ مِن الدنيا ما يُريد، ومَن بدأ بنصيبه من الآخرة وصَل إليه نصيبُه من الدنيا، وأدْرَك من الآخرة ما يريد، فاتَّقوا الله، ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون ﴾ [البقرة: 281].
فكونوا مِن أبناء الآخِرة ولا تكونوا مِن أبناء الدنيا؛ فإنَّ الله تعالى يُعطي الدنيا مَن يُحبُّ ومَن لا يحب، ولا يُعطي الآخرةَ إلا مَن يحب، ولن تَزُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟.
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا جميعًا بما فيه مِن الآيات والذِّكْر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم مِن كل ذنب، فاستغفروه يغفرْ لكم، إنَّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمدُ لله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولَّى الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له فهو إلهُ الأوَّلين والآخِرين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بشيرًا للمؤمنين، ونذيرًا للكافرين، وحُجَّة على الخَلْق أجمعين، صلَّى الله وسلَّم عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن اقْتَفى أثرَه، ونهَج سبيله بإحسان إلى يوم الدِّين.
أما بعدُ: فيا أيُّها الناس: اتَّقوا الله، وتوسَّلوا بالإيمان به؛ فإنَّه نعمَ الوسيلة، وإقامِ الصلاة؛ فإنَّها عمودُ المِلَّة، وإيتاءِ الزَّكاة؛ فإنَّها بعد الصلاة أعظمُ فريضة، وصومِ رمضان؛ فإنَّه مِن العذاب جُنَّة، وحجِّ بيت الله الحرام؛ فإنَّه منفاةٌ للفقر، ومَكْفَرةٌ للآثام.
وعليكم بصِلة الرَّحِم؛ فإنَّها مثراةٌ في المال، منسأةٌ في الأجل، ومَسرَّة للنَّفْس، ومحبَّة في الأهل، وصَدَقة السر؛ فإنَّها تُكفِّر الخطيئة، وتُطفئ غضبَ الربِّ، وتكون ظلاًّ لصاحبها يومَ القيامة، وصنائعِ المعروف؛ فإنَّها تَقِي صاحبَها مصارعَ السوء، وتكسِبُه حُسنَ الثناء.
واشتغلوا بذِكْر الله؛ فإنَّه أحسنُ الذِّكْر، وارغبوا فيما وعَد الله به المتقين؛ فإنَّ وعد الله أصدقُ الوعد، واقتدوا بهَدْي نبيِّكم محمَّدٍ ﷺ فإنَّه أفضلُ الهدي، واستنوا بسُنَّته فإنَّها أفضل السُّنن، وتَعلَّموا كتاب الله فإنَّه أفضلُ الحديث، وتَفَّقهوا فيه فإنَّه ربيعُ القلوب، واستشفوا به فإنَّه نِعْمَ الشفاء، وأحسنوا تلاوته فإنَّه أحسنُ القَصَص، وإذا قُرِئ القرآن عليكم، فاستمعوا إليه وأنصِتوا؛ لعلَّكم ترحمون.
والْزَموا الصِّدْقَ، فإنّ الله مع الصادقين، واحذروا الكَذِبَ فإنَّه مجانب للإيمان، وقولوا الحقَّ تُعرَفوا به، واعملوا به تكونوا من أهلِه، وأدُّوا الأمانةَ إلى مَن ائتمنكم، وصِلَوا الرحم وإن قَطَعتْكم، وجُودوا بالفضل على مَن حَرَمكم، وإذا قلتُم فاعدِلوا، وإذا عاهدتُم فأَوْفوا، ولا تُفاخروا بالآباء، ولا تَنابزوا بالألقاب، وإيَّاكم والنميمةَ، واحذروا الغِيبةَ، وأعينوا الضَّعيف، واعطفوا على الأيتام، وأكرِموا الضيْف، وأفْشُوا السلام، وأحسِنوا إلى الجار، وانصُروا المظلوم، تكونوا مِن المحسنين الذين وعَدَهم الله المغفرةَ والجنة.
عباد الله: اكثروا من الصلاة على نبيكم فقد أمركم بذلك ربكم فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن جميع الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
فاذْكُروا الله العظيم الجليل يَذكُرْكم، واشكروه على نِعَمه يَزدْكم، ولَذِكْرُ الله أكبر، والله يعلم ما تَصنعون.


الجمعة، 1 فبراير 2019

خطبة تفسير سورة الفاتحة وتنبيهات حولها

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
أما بعد: فَإِنَّ أصدق الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيُرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ﷺ وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالة وكلَ ضلالة في النار.
عباد الله: إنَّ القرآن هو حَبْلُ الله المتين، ونوره المبين، وصراطه المستقيم، فيه نبأُ ما قبلكم، وخَبر ما بعدكم، وحُكْم ما بينكم.
عباد الله: نقف وإياكم مع سورة من سور القرآن الكريم وليست أي سورة إنها أعظم سورة في كتاب الله، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ أُجِبْهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ ثُمَّ قَالَ لِي: لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ. ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ).
فهذا الحديث يدل على أن سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن وأنها سبعُ آياتٍ، منهم من جعل البسملة آيةً من الفاتحة والصواب أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، ولكنها آية مستقلة أنزلها الله فصلًا بين السور علامة أن السورة التي قبلها انتهت وأن التي بعدها سورة جديدة، هذا هو الصواب عند أهل العلم، وعلى هذا فتكون الآية السابعة: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾.
وللفاتحة أسماءٌ متعددةٌ: فاتحةُ الكتابِ، أم الكتاب، أمُّ القرآن، السبع المثاني، وتُسمَّى الشافية، وتسمى سورة الشكر، وسورة الدعاء، وسورة الكنز – لأنها من كنز تحت العرش - ولها أسماء أخر.
ولم ينزل في القرآن، ولا في التَّوراةِ ولا في الإنجيلِ أفضل من سورة الفاتحة، فعن أبي هريرةَ عن أُبيِّ بنِ كعبٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: «ما أنزل اللهُ تبارك وتعالى في التَّوراةِ ولا في الإنجيلِ مثل أمّ القرآن، وهي السَّبعُ المثاني».
وعن أنسٍ عن النبيِّ ﷺ قال: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ أعطاني فيما مَنَّ بهِ عليَّ: إنِّي أَعطيتُك فاتحةَ الكتابِ، هي مِنْ كنوزِ عَرشِي، قسمْتُها بَيني وبَينكَ نصْفين».
وسُورةَ الفاتحةِ شفاءٌ من كلِّ داءٍ، فهي شفاءٌ مِن الأمراضِ القلبيَّةِ، وشِفاءٌ من الأسقامِ البدَنيَّة؛ عن أبي سعيدٍ عن النبيِّ ﷺ أنَّه قال: «فاتحةُ الكتابِ شفاءٌ من كلِّ داءٍ إلا السَّام».
عباد الله: حتى نحقق المقصود من هذه السورة العظيمة علينا أن نفهم معانيها وأن نعرف تفسيرها.
فبدأت السورة بالبسملة ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ أي باسم الله أبدأ قراءة القرآن، مستعينًا به تعالى متبركًا بذكر اسمه. وقد تضمنت البسملة ثلاثة من أسماء الله الحسنى، وهي: "الله"؛ أي: المعبود بحق، وهو أخص أسماء الله تعالى، ولا يسمى به غيره سبحانه.
“الرَّحْمَن”؛ أي: ذو الرحمة الواسعة. فهو الرحمن بذاته.
“الرَّحِيم”؛ أي: ذو الرحمة الواصلة. فهو يرحم برحمته من شاء من خلقه ومنهم المؤمنون من عباده.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ جميع أنواع المحامد من صفات الجلال والكمال هي له وحده دون من سواه؛ إذ هو رب كل شيء وخالقه ومدبره المربي لجميع خلقه بنعمه، ولأوليائه بالإيمان والعمل الصالح. و "العالمين" جمعُ “عالَم” وهم كل ما سوى الله تعالى. كعالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم الإنس، وعالم الحيوان، وعالم النبات.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ثناء على الله تعالى لاستحقاقه الحمد كله.
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ تمجيد لله تعالى بأنه وحده المالك لكل ما في يوم القيامة، حيث لا تملك نفس لنفس شيئًا. فـ “يوم الدين”: يوم الجزاء والحساب.
وفي قراءة المسلم لهذه الآية في كل ركعة من صلواته تذكير له باليوم الآخر، وحثٌّ له على الاستعداد بالعمل الصالح، والكف عن المعاصي والسيئات.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة، فكأنه يقول: نعبدك، ولا نعبد غيرك، ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك. وقدم العبادة على الاستعانة، من باب تقديم العام على الخاص، واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده. و {العبادة} اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة. و {الاستعانة} هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.
وفي هذه الآية دليل على أن العبد لا يجوز له أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة كالدعاء والاستغاثة والذبح والطواف إلا لله وحده، وفيها شفاء القلوب من داء التعلق بغير الله، ومن أمراض الرياء والعجب، والكبرياء.
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ دُلَّنا إلَى الصراط المستقيم، واسلكْ بنا فيه، وثبِّتنا عليه، وزدنا هدى. و”الصراط المستقيم” هو الطريق الواضح الَّذي لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام الَّذي أرسل الله به محمدًا ﷺ.
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ طريق الذين أنعمت عليهم من عبادك بهدايتهم؛ وقد أخبرنا ربنا تبارك وتعالى في القرآن من هم الذين أنعم الله عليهم بتوفيقه، فهداهم لطريق الرشد، فقال ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾.
﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ غير طريق الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه كاليهود، وغير طريق الضالين عن الحق الذين لم يهتدوا إليه لتفريطهم في طلب الحق والاهتداء إليه كالنصارى.
فلذلك يشرع بعدها للإمام والمأموم والمنفرد قول آمين ومعنى آمين أي اللهم استجب لتضمنها للدعاء، قال ﷺ: (إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ، فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).
وقال ﷺ: (إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)، فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).
-------------------
الْحَمْدُ لِلَّهِ على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، الهادي إلى إحسانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاعلموا أن الصلاة لاتصح إلا بقراءة الفاتحة فهي ركن من أركان الصلاة في كل ركعة في حق الإمام والمنفرد، أما المأموم فالراجح من أقوال أهل العلم أنه يقرأ الفاتحة دائماً في الصلاة السرية في الجهرية يقرأ فيهما جميعًا، لعموم قوله ﷺ (لا صَلاة لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)، ولأنه ﷺ قال: ( لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ؟) قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: (فَلَا تَفْعَلُوا إِلا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا) هذا يدلنا على أن المأموم يقرأ في الجهرية والسرية جميعًا، وإذا شرع الإمام في القراءة وهو لم يقرأ الفاتحة فإنه يقرأ سرًا ثم ينصت ولو كان إمامه يقرأ، أو قرأ بعض الفاتحة ثم شرع إمامه في السورة فإنه يكمل قراءة الفاتحة ثم ينصت لإمامه.
وهناك أخطاء شائعة في قراءة بعض المصلين لسورة الفاتحة:
فمن الخطأ تسكين كلمة: "الحمد" في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. فيقرأها (الْحَمْد لِلَّهِ)
قراءة الْعَالَمِينَ: بكسر اللام قوله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. فيقرأها (العالِمين) وهذا خطأ مغير للمعنى ويبطل الصلاة.
ومن الخطأ عدم نطق الهمزة في إياك نعبد فيقول وياك نعبد ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
وهناك من يطيل في الضم، فيقول: "نعبدو"، وهذا خطأ، والصواب: ﴿نعبدُ﴾.
عدم تشديد الياء في قوله تعالى: ﴿إيَّاك﴾، فيقول: "إيَاك" أو مدها.
والفرق بينهما: أن التشديد تخصيص لله، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾؛ أي: "يا رب، لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين إلا بك"، وبدون تشديد: "إياك" هو ضوء الشمس؛ أي: إننا نعبد ضوء الشمس، ونستعين بضوء الشمس.
ومن الخطأ فتح همزة اهدنا فيقول أهدنا والصواب إهدنا.
إبدال الطاء: "تاء" في قوله تعالى: ﴿الصراط﴾، فيقول: اهدنا الصراتَ.
إبدال الصاد: "شين" في قوله تعالى: ﴿الصراط﴾، فيقول: "الشراط" او يقول الزراط.
إبدال السين: "صاد" في قوله تعالى: ﴿المستقيم﴾، فيقول: "المصتقيم".
إبدال التاء: "طاء" في قوله تعالى: ﴿المستقيم﴾، فيقول: "المسطقيم" او يقول المستغيم.
إبدال الذال: "زاي" في قوله تعالى: ﴿الذين﴾، فيقول: "الزين".
ضم التاء في قوله: ﴿أنعمتَ﴾، فيقول: "أنعمتُ"، وهذا خطأ فادح.
ومن الخطأ ابدال الضاد:"دال" في قوله تعالى(المغضوب) فيقول المغدوب.
إبدال الضاد: "زاي" في قوله تعالى: ﴿الضالين﴾، فيقول: "الزالين".
أخي في الله: إذا كان في تلاوتك أياً من هذه الأخطاء فحاول إصلاحها تكسب عظيم الثواب لنفسك وإذا وجدت إماماً يخطئ في أي منها فعليك بتوجيهه بالحسنى بعيداً عن أعين الناس حتى يتقبل نصيحتك ولا تأخذه العزة بالإثم، وتصور كم تكتب لك من حسنات عندما يصلح الإمام حرفاً واحداً تكتب لك به حسنة كلما كرره إلى أن يتوفاه الله، فما بالك بالحسنات غير المباشرة نتيجة تصحيح قراءة صلاة الآف الناس خلف هذا الإمام، إنها لا شك حسنة جارية لا تنقطع تكتب لك حتى يرث الله الأرض ومن عليها مثلما لا يخفى عليك إثم من علم ذلك ولم يصححه.
عبادالله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا ولِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أرادنا وبلادنا بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
عباد الله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ