الخميس، 24 يناير 2019

خطبة ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ

أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيْكُمْ مَعْشَرَ الإِخْوَةِ الكِرَامِ بِتَقْوَى الله عز وجل فَالتَّقْوَى خَيْرُ الأَعْمَالِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
قال السعدي: هذه الآية بيان لما يستحقه الله تعالى من التقوى، وهي أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات، فإن من عاش على شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه وطاعته، منيبا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته ورزقه حسن الخاتمة.
عباد الله: الحقيقة الثابتة التي أجمع عليها البشر والموقف الرهيب الذي يواجه كل حيِّ، المؤمن والكافر، البر والفاجر، يذكره الله تعالى في كتابه، ويؤكد على ضرورة التنبه لما بعده من الحساب والجزاء فيقول سبحانه:﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ نعم، كل نفوس الخلائق ستذوق الموت، وهو كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى، وعمَّر سنين، لكننا نسهو ونلهو عن ذكره وتذكره، مع أن رَسُولَنا ﷺ أمرنا بالإكثار من ذكره، فَقَالَ ﷺ (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ) يَعْنِي الْمَوْتَ وهَاذِمِ اللَّذَّاتِ أي قاطعها.
وقال ﷺ (أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يُمَحِّصُ الذُّنُوبَ وَيُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا).
فالموت لابد منه، ولا مفر منه، يصل إلينا في بطون الأودية، وعلى رؤوس الجبال، فوق الهواء، وتحت الماء، فلا ينجو منه ملائكة السماء، ولا ملوك الأرض، ولا أحد من إنس أو جن أو حيوان، ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَة
وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
أيها الإخوة: كم من الناس لا يعير للرحلة الكبرى اهتمامه، بل كم منهم من نسيها وكأنها لن تأتيه، مع إنه ما تذكر أحد تلك الساعة الرهيبة وخاف من عاقبتها إلا نجا عندما تذكرها فعمل لها، وما لَهَا عنها أحدٌ إلا تحسر وندم حين قرب أجله، ودنا فراقه، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
إذاً لا بد من الموت لأنه إظهارٌ لقدرة الله، وبرهانٌ على البعث، ودليلٌ على الوقوفِ أمام رب العالمين، لابد من الموت ليتعظَ الناس، وتستقرَ أحوالهم، فهو أقوى عظةً وأفظعُ خطباً وأشنعُ أمراً وأمر كأساً.
فنسيان الموت ضلال مبين، وبلاء عظيم، ما نسيه أحد إلا طغى، وما غفل عنه امرؤٌ إلا غوى، ولا يمكن علاج ذلك ولا التخلص منه إلا أن يتذكر الإنسان قول الله، ﴿وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ
فلا تنسوا الموت او تتناسوه فإنه إذا وصل لن يرده أحد ولا يهرب منه احد ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ وقال سبحانه ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
فأعدوا للأمر الشديد عدته، وتأهبوا للرحيل، واعملوا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل:
تَزَوَّدْ من التقوى فإنك لا تدري ● إذا جَنَّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجرِ
فكم من فَتًى أمسى وأصبح ضاحكا ● وقد نُسِجَْت أكفانُه وهو لا يدرِي
وكم من صغارٍ يُرْتَجَى طولُ عمرهم ● وقد أُدخلت أجسامُهم ظلمةَ القبرِ
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها ● وقد قُبضت أرواحُهم ليلةَ القدرِ
وكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ ● وكم من عليلٍ عاش حيناً من الدهرِ
وكم من صبيٍ يرتجى طولُ عمره ● وقد نسجتْ أكفانُه وهو لا يدري
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها ● وقد قُبضت روحُها ليلةَ القدرِ
وكم من ساكنٍ عند الصباحِ بقصرِهِ ● وعند المساء قد كان من ساكنِ القبرِ
فكن مخلصاً واعمل الخيرَ دائماً ● لعلك تحظى بالمثوبةِ والأجرِ
وداوم على تقوى الإله فإنها ● أمانٌ من الأهوالِ في موقفِ الحشرِ
اللهم تجاوز عن زلاتنا، واغفر خطيئاتنا، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، ولا تغتروا بدنياكم، وتزودوا لما أمامكم ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ
يا عبد الله: إن منزلك الحقيقي في حفرةٍ من الأرض، قريبةٍ أنحاؤها، مظلمةٍ أرجاؤها.
قال زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في ليس الغريب:
وَأَنْزَلوني إلى قَبري على مَهَلٍ ● وَقَدَّمُوا واحِداً مِنهم يُلَحِّدُني
وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني ● وَأَسْبَلَ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني
فَقامَ مُحتَرِماً بِالعَزْمِ مُشْتَمِلا ً● وَصَفَّفَ اللَّبْنَ مِنْ فَوْقِي وفارَقَني
وقَالَ هُلُّوا عليه التُّرْبَ واغْتَنِموا ● حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ
وأودعوني ولجوا في سؤالهموا ● مالي سواك إلهي من يخلصني
في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هناك ولا ● أَبٌ شَفيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُني
عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي جِنَازَةٍ فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ ﷺ: (يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا).
فيا أيها الحي الآن، اعلم أن الحزن عليك سيكون على ثلاثة أنواع: الناس الذين يعرفونك سطحياً سيقولون الله يرحمه ربما ككلمة عابرة، صدقاؤك سيحزنون ساعات أو أياماً ثم يعودون إلى حديثهم بل وضحكهم، الحزن العميق في البيت سيحزن أهلك أسبوعا أو أسبوعين، شهراً أو شهرين أو حتى سنة وبعدها سيضعونك في أرشيف الذكريات.!
انتهت قصتك بين الناس أما قصتك الحقيقية فقد بدأت من حين خروج روحك إلى بارئها فالقبر أول منازل الآخرة فَقَد كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ» قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ»
هذه حقيقة تحتاج الى تأمل، ووقفة مع النفس نؤكد فيها عليها على الحرص على أداء الفرائض، والإكثار من النوافل، والاهتمام بصدقة السر وعدم تركها ومما يحسن بالمسلم أن يخصص لها مبلغاً كل شهر، ذلك أن عدم تخصيص مبلغٍ كلَ شهر ينسي المسلم الصدقة ويصعبها عليه لفقد المال أو البخل به، قال الله تعالى حاثاً على النفقة في سبيله ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال العلماء: ما ذكر الميت الصدقة إلا لعظيم ما رأى من أثرها بعد موته.
نسأل الله أن يرحمنا برحمته؛ وأن يغفر ذنوبنا، ويستر عيوبنا
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم اجعلنا ممن يفرح بلقاءك وينعم بعطائك، وممن يصحب في الدارين أولياءك يارب العالمين.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ.
اللهم اجعلنا ممن يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابق عذاب.
اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها وخير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا ولِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أرادنا وبلادنا بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
عبادالله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وآخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.




الخميس، 17 يناير 2019

خطبة: وقفات مع سورة الْحُجُرَات.

أما بعد فـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ .
أيها المؤمنون: ما أجملَ أن نعيشَ أفضلَ اللحظاتٍ في رِحابِ آياتٍ بيِّنات، نستلهِمُ النفحَات والعِظات، ونجنِي أطايِبَ الثمرات، من سُورة الآداب والأخلاق “سورة الْحُجُرَات”، فسورة الْحُجُرَاتِ مدرسة متكامِلة جاءت تربّى الفرد والمجتمع بل الأمة جميعًا على سموّ الأخلاق وفضائل الأعمال وعلوّ الهمم.
لقد خاطب الله – عز وجل – المؤمنين في هذه السورة خمس مرات بقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾، وفي كل نداء من هذه النداءات توجيه إلى مكارم الأخلاق التي ينبغي التحلي بها، ثم خاطب في المرة السادسة عموم الخلق بقوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ ليرشدهم إلى طريقة تحفظ أمن الجميع وسلامتهم وتعاونهم على البر والتقوى.
فكان النداء الأول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
يأمر الله تعالى المؤمن بعدم تقديم رأيه على أوامر الله واوامر رسوله ﷺ ألا يقدم رأيه على الكتاب والسنة، بل يكون رأيه تبعاً لما جاء به النبي ﷺ، وتكون محبته وولاؤه لله ورسوله أقوى وأشد من محبته وولائه لنفسه وأهوائه ومصالحه.
النداء الثاني في هذه السورة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ ففهي هذه الآية يعلمنا ربنا كيف نتأدب مع رسولنا ﷺ وقد أجمعَ أهلُ العلم على أن الأدبَ مع النبي ﷺ حالَ موته كالأدب معه في حياته.
والنداء الثالث في هذه السورة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
ففي هذه الآية يأمرنا الله عز وجل بالتثبت والتبين، وعدم التحدُث بكل ما يسمع حتى يتأكد من صحته، وليس هذا فحسب؛ فمن الواجب على المسلم ألاّ يُخبر بالخبر إلاّ إذا كان فيه نفعٌ وفائدة، إما إذا كان الخبر صحيحاً وليس فيه نفعٌ ولا فائدة فإن الأولى والأحسن والأجدر أن يسكت عنه ولا يُحدث به.
والنداء الرابع في سورة الْحُجُرَاتِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
في هذه الآية يعلمنا كيف نتعامل مع إخواننا المؤمنين في حال حضورهم والتعامل المباشر معهم.
وحذرنا من السخرية وسواء كانت السخرية واللمز والنبز بين الأفراد أو بين الأقوام والجماعات ؛ فإن ذلك محرم يجب الإقلاع عنه ، والمؤمن أحق من يلتزم بذلك ؛ لأنه داعية إلى الإسلام وقدوة فيه ، لاسيما إذا ارتكب هذا الإثم في حق المؤمنين ؛ لأنه بذلك يكون قد نبز نفسه وحقرها وسخر منها ، فالمؤمنون جسد واحد.
عباد الله والنداء الخامس في سورة الْحُجُرَاتِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾، في هذه الآية يعلمنا كيف نتعامل مع اخواننا المؤمنين في حال غيبتهم وعدم حضورهم.
وقد أخرج البخاري ومسلم قوله ﷺ: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) . رواه البخاري.
والغيبة ثلاثة أوجه في كتاب الله – تعالى -: الغيبة، والإفك، والبهتان. الغيبة أن تقول ما في أخيك، والإفك أن تقول فيه ما بلغك عنه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه.
فالغيبة جيفة يرعى عليها اللئام، والذي يتكلم في الناس وهم غياب كالذي يأكل لحوم الأموات: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾.
فاللهم طهر ألسنتنا من الغيبة والنميمة ومن كل فحش وسوء، وطهر مجالسنا من كل رذيلة ونقيصة وشر، يا رب العالمين.
الخطبة الثانية
أما بعد فاتقوا الله وأعلموا أن ميزان التفاضل بين البشر هو تقوى الله سبحانه وتعالى.
وتقوى الله سبحانه، بفعل أوامر الله جل وعلا رغبة في ثوابه وترك المحرمات خوفاً من عقابه.
كما قال الله تعالى في النداء السادس في سورة الْحُجُرَاتِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ قال ابن كثير: (فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية)
وقد استشرف الصحابة إلى معرفة أكرم الناس بالميزان الدنيوي، فوزن لهم رسول الله ﷺ بالميزان الأخروي الذي يعطي الحقائق على وجهها ويزن الرجال بأعماله.
فعن - أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئِل رسولُ اللهِ ﷺ أيُّ الناسِ أكرَمُ؟ قال: (أكرَمُهم عِندَ اللهِ أتقاهم). قالوا: ليس عن هذا نَسأَلُك، قال: (فأَكرَمُ الناسِ يوسُفُ نبيُّ اللهِ، ابنُ نبيِّ اللهِ، ابنِ نبيِّ اللهِ، ابنِ خليلِ اللهِ). قالوا: ليس عن هذا نَسأَلُك، قال: (فعن مَعادِنِ العربِ تَسأَلونَني). قالوا: نعمْ، قال: (فخِيارُكم في الجاهليةِ خِيارُكم في الإسلامِ، إذا فَقُهوا). رواه البخاري
هذا الربط بين الخيرية وبين التقوى هو الميزان الذي يجب علينا كمسلمين أن نزن به الناس على ظواهرهم ونحسبهم والله حسيبهم، فمن ابتغى غيره فقد خاض في عفن الجاهلية ولم يرد إلا الحياة الدنيا.
واعلموا أن سب الناس أمر ليس بالهين لكنه عندما يكون عن سخرية واحتقار وتنقص فإن أمره أعظم لما يدل عليه من خبث السريرة وقلة الحياء من الله ومن الناس.
وأعلم أخي الكريم أن: من سبك واحتقرك ونال من عرضك فقد وصل به الجرم ما يوصفه حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرِّبا اثَنانِ و سبعونَ بابًا، أَدْناها مثلُ إِتْيانِ الرجلِ أُمَّهُ، و إِنَّ أَرْبَى الرِّبا اسْتِطَالَةُ الرجلِ في عِرْضِ أَخِيهِ) صححه الألباني.
فإن كان الربى عظيم فإن هناك ما هو أشنع منه أن تقتطع من لحم أخيك طعام تستسيغه لكبر وتطاول في نفسك.
وختام الآية منهج رباني وسنة ماضية والله: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي: عليم بكم، خبير بأموركم، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، ويفضل من يشاء على من يشاء، وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كله، والمعنى.
الناس ينظرون بمنظار المصلحة والوجاهة والعطاء المشبوه من الأموال، والله ينظر إلى الناس بمنظار الحق والعدل والإنصاف.
ولستم أنتم من تعطون الناس مقاماتهم عند الله، بل يختار وينزل من رحمته على من يشاء من عباده.
والله كما قسم الأرزاق قسم المناصب والكرامات والرحمات، وليس لنا والحال هذه إلا أن نسأل الله بعمل صالح أن يختارنا بفضله وكرمه وإن يتولانا فيمن تولى.
اللهم إنا نعوذ بك من مظلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم إنا نعوذ بك من الكبر والعجب احتقار البشر. اللهم نقي قلوبنا من النفاق وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الكفر والكافرين، اللهم أظهر دينَكَ وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم الهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا وادخلنا برحمتك في الصالحين يا رب العالمين.
عبادالله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ




بتصرف

الجمعة، 11 يناير 2019

خطبة: سلامة القلب

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ»، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ».
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ يُبَيِّنُ ﷺ لِلصَّحَابَةِ خُصُوصًا وَلأُمَّتِهِ عُمُومًا: مَنْ هُوَ أَفْضَلُ النَّاسِ؟ لَيْسَ أَفْضَلَهُمْ جَاهًا أَوْ مَنْصِبًا أَوْ مَالاً، وَإِنَّمَا مَنْ حَمَلَ قَلْبًا سَلِيمًا كُلُّهُ تُقًى ونَقَاءٌ وَبُعْدٌ عَنْ كُلِّ غِلٍّ وَحَسَدٍ.
فَمِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ: أَنْ يَحْمِلَ الْمُسْلِمُ هَذَا الْقَلْبَ النَّقِيَّ الصَّافِي فِي الْعَقِيدَةِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ وَلِذَلِكَ فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَمَّا يُوغِرُ الصُّدُورَ وَيَبْعَثُ عَلَى الْفُرْقَةِ وَالشَّحْنَاءِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا – وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ – بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
إن سَلاَمَة الصَّدْرِ من الغِل نِعْمَةٌ عظيمة فلا يرضى الله بغل المؤمنين لبعضهم البعض، ومِنَ النِّعَمِ الَّتِي تُوهَبُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ حِينَمَا يَدْخُلُونَهَا نزع الغل من قلوب المؤمنين, قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ وقال تَعَالَى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ وَالْمُسْلِمُ النَّاصِحُ هُوَ الَّذِي يَتَفَقَّدُ قَلْبَهُ وَيَسْعَى لإِصْلاَحِهِ بِفِعْلِ أَسْبَابِ سَلاَمَتِهِ مِنْ كُلِّ غِلٍّ وَحَسَدٍ، وَالَّتِي مِنْهَا:
صِدْقُ التَّوَجُّهِ للهِ تَعَالَى، وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لَهُ، وَسُلُوكُ مَنْهَجِ رَسُولِهِ ﷺ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
فَكُلُّ صَاحِبِ عَقِيدَةٍ سَلِيمَةٍ، وَمَنْهَجٍ مُعْتَدِلٍ، يَحْمِلُ سَلاَمَةً فِي صَدْرِهِ مِنْ كُلِّ غِلٍّ أَوْ حَسَدٍ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِذَلِكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِمَّنِ انْحَرَفَ عَنْ مَنْهَجِ النَّبِيِّ ﷺ وَصَحَابَتِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو قَلْبُهُ مِنْ غِلٍّ أَوْ حَسَدٍ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِذَلِكَ مِنْ سِمَاتِ الْخَوَارِجِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ؛ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ غِلٍّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلاَّ غَلَّ صَدْرُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ».
وَمِنْ أَسْبَابِ سَلاَمَةِ الصَّدْرِ: التَّعَلُّقُ بِالآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الاِغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، فَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَّعَ اللهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَمِنْ أَسْبَابِ سَلاَمَةِ الصَّدْرِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا، وَالإِكْثَارُ مِنَ النَّوَافِلِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِنْ أَسْبَابِ سَلاَمَةِ الصَّدْرِ: تِلاَوَةُ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرهُ؛ فَهُوَ دَوَاءٌ لِكُلِّ دَاءٍ، وَشِفَاءٌ تَامٌّ مِنْ جَمِيعِ الأَدْوَاءِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْقَلْبِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَنُنَزِلُ مِنَ القُرءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظّالمِينَ إلا خَسَارًا﴾.
وَمِنْ أَسْبَابِ سَلاَمَةِ الصَّدْرِ: إِفْشَاءُ السَّلاَمِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَتَفَقَّدُوا أَحْوَالَكُمْ مَعَ إِخْوَانِكُمْ، وَاسْعَوْا فِي صَلاَحِ قُلُوبِكُمْ؛ فَإِنَّ صَلاَحَ الْعَمَلِ مُرْتَبِطٌ بِصَلاَحِ الْقَلْبِ، وَفَسَادَهُ مُرْتَبِطٌ بِفَسَادِهِ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .. أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: سَلاَمَةُ الصَّدْرِ نِعْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، وَمِنْحَةٌ إِلَهِيَّةٌ؛ إِذْ هِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ عَلَى الْعَدُوِّ، قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ فَائْتِلاَفُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ ﷺ،كَمَا قَالَ الإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَسَلاَمَةُ الصَّدْرِ سَبَبٌ فِي قَبُولِ الأَعْمَالِ، قَالَ ﷺ: «تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا».
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ قُلُوبًا نَقِيَّةً تَقِيَّةً تُحِبُّ وَتُبْغِضُ، وَتُوَالِي وَتُعَادِي فِيكَ، اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُورَنَا، وَاغْفِرْ ذُنُوبَنَا، وَاخْتِمْ لَنَا بِخَيْرٍ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ ‏ﷺ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الكفر والكافرين، اللهم أظهر دينَكَ وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم عليك بمن يستهدف ديار المسلمين ومقدساتهم وحرماتهم، اللهم من أرادنا أو أراد ديننا وبلادنا وأمننا بسوء أو كيد أو اعتداء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميره واجعل الدائرة عليه، وأنزل به
به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وأرنا فيه عجائب قدرتك يا قوي يا عزيز.
اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وَأَصْلِحِ الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ قُلُوبًا نَقِيَّةً تَقِيَّةً تُحِبُّ وَتُبْغِضُ، وَتُوَالِي وَتُعَادِي فِيكَ، اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُورَنَا، وَاغْفِرْ ذُنُوبَنَا، وَاخْتِمْ لَنَا بِخَيْرٍ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.







منقولة بتصرف