الخميس، 25 نوفمبر 2021

الدَّين وإنظار المعسر

 أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى ايها الناس اتقُوا الله حقَّ التّقوى واستمسكوا بالعروة الوثقى.

عبادَ الله، إنّ مِن خُلُق المؤمن وفاءَه بالعهودِ والتِزامَه بالعقود، قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾.

وقال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)، والدَّواوينُ يومَ القيامةِ ثلاثةٌ، ومنها ديوانٌ لا يَتَجاوزُ اللهُ عنهُ وهو ديوانُ حُقوقِ العباد، وهاهُنا مسألةٌ حصلَ فيها تقصيرٌ وتساهلٌ بشأنها لمن ذاقَ طَعمَها، ألَا وهيَ مَسألةُ الدَّين.

فالناسُ اليومَ يتساهلونَ بالاستِدانةِ تَساهُلاً كبيراً، والاستِدانة لها عواقب خطيرة.

قال ﷺ: "نفسُ المؤمنِ مُعلَّقةٌ بدَينهِ حتَّى يُقضَى عنهُ"، وقال ﷺ: "إنْ قُتِلْتَ في سبيلِ اللهِ صابراً مُحْتَسِباً مُقبلاً غيرَ مُدبِرٍ كَفَّرَ اللهُ عنكَ خطاياك إلاّ الدَّين"

فيحرم على المسلم أن يجحد أو يماطل أو يتأخر في سداد مافي ذمته من الدَّين وهو قادر على سداده، فمن مات وعليه دين لن يغفر له دينه حتى لو كان شهيداً، قال ﷺ: (يغْفِرُ اللَّه للشَّهيدِ كُلَّ ذنب إلاَّ الدَّيْنَ)، والمماطلة في سداد الدين من الذنوب العظيمة التي نهى عنها الرسول ﷺ وهو داخل في ظلم الأموال وقد عدها بعض أهل العلم من كبائر الذنوب، ولذلك قال النبي ﷺ: (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ). متفق عليه. 

وقد نص الفقهاء على أن المماطل فاسق ترد شهادته لظلمه وتهاونه بالحقوق. 

وهذا التصرف من المستدين يحل لصاحب المال أن يشتكيه عند الحاكم، ويحل للحاكم حبسه حتى يوفي دينه، لأنه ظلمه في ماله لقول الرسول ﷺ: (لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ). رواه أبوداود. 

وإذا لم يجد سبيلا عليه أبيح له أن يدعو عليه لأنه مظلوم والشرع جعل للمظلوم دعوة مستجابة كما قال النبي ﷺ: (اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ). متفق عليه.

والمماطل المذموم شرعاً والمستحق للتعزير في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو القادر على الوفاء، أما المعسر الذي لا يستطيع الوفاء فمعذور شرعا ولا يحل شكايته ويجب امهاله لأنه معذور، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

ومن كان عنده دين لأحد قد مات فإنه يسلمه لورثته، ولا يكتم ذلك ولا يتصدق به، بل يعطيه للورثة.

وإذا كان على الإنسان دين ولم يجد صاحب الدين، بأن: انتقل إلى مكان آخر أو سافر، ولم يدر عنه ولم يعرفه، فإنه بعد التحري وبعد بذل المستطاع في التعرف عليه أو على مكانه، فإذا عجز فإنه ينتظر المدة المناسبة لعله يأتيه، وإن لم يأت فإنه يتصدق بذلك على الفقراء والمساكين، أو يصرف ذلك في بعض المشاريع الخيرية، كتعمير المساجد وما أشبه ذلك، ويكون الأجر لصاحبه، ينويه عن صاحب المال، ثم إذا جاء صاحب المال فهو بالخيار، إن شاء قبل الصدقة وصارت له الصدقة، وإن شاء طلب حقه فتعطيه حقه ويكون الأجر لك فيما تصدقت به.

واعلموا ياعباد الله أنه يحرم تأخير مستحقات الاجراء كالعمال والموظفين يحرم تأخيرها عن وقت الاستحقاق، وهو تمام العمل، أو نهاية المدة المتفق عليها، فإذا كان الاتفاق على جعل الراتب شهريا، لزم دفعه للعامل في نهاية كل شهر، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ) وتأخير الحق عن وقته من غير عذر يعد مطلاً وظلما. 

وقد سئل علماء اللجنة الدائمة (14/390): عن صاحب عمل لا يعطي العاملين لديه أجورهم إلا عند سفرهم لبلادهم، والعاملون يرضون بذلك لقلة حيلتهم وقلة فرص العمل ولحاجتهم للمال.

فأجابوا:"الواجب: أن صاحب العمل يعطي الأجير عنده راتبه بعد نهاية كل شهر، كما هو المتعارف عليه بين الناس اليوم، لكن إذا حصل اتفاق وتراض بينهما على أن يكون الراتب مجموعا بعد سنة أو سنتين فلا حرج في ذلك ؛ لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (المسلمون على شروطهم)" انتهى.

ويجب على من يقوم بالعمل أن يلتَزِم ويقومَ بالواجب فإذا أخلّ العامل أو الأجير بشرط العمل أو انسحب أو هرب قبل تمام العمل المتفق عليه، فإنه لا يستحق الأجرة المتفق عليها (الراتب) إلا إذا أتم ما يطلب منه من الأعمال المتفق عليها في العقد.

وجاء في" فتاوى اللجنة الدائمة" ( 15 / 153): " الواجب على من وكل إليه عمل يتقاضى في مقابله راتبا أن يؤدي العمل على الوجه المطلوب، فإن أخل بذلك من غير عذر شرعي لم يحل له ما يتقاضاه من الراتب" انتهى.

فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه وردوا الحقوق إلى أهلها، واعلموا أن الله لم يجعل رزقكم فيما حرم عليكم: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا)

اللهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمومين، ونَفِّسْ كَرْبَ المَكْروبين واقْضِ الدَّينَ عنِ المَدينين.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اما بعد فيا عباد الله: قال ﷺ (مَن أنظَرَ مُعسِرًا، فله كلَّ يومٍ صَدقةٌ قبْلَ أنْ يَحِلَّ الدَّينُ، فإذا حَلَّ الدَّينُ، فأنْظَرَهُ بعدَ ذلك، فله كلَّ يَومٍ مِثْلَيه صَدقةً)

فتَذَكَّرْ أَيُّهَا الدَّائِنُ أَنَّكَ إِذَا اِحْتَسَبْتَ الأَجْرَ فِي إِقْرَاضِ أَخِيْكَ وَنَفَّسْتَ كَرْبَهُ؛ كَانَ لَكَ الأَجْرُ الذِيْ وَعَدَكَ بِهِ الحَبِيْبُ ﷺ، رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيْحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ".

ومَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا وَأَنْجَاهُ مِنْ لَهِيْبِ الحَاجَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُجَازِيْهِ بِأَنْ يُنْجِيْهِ مِنْ لَهِيْبِ الحَرِّ يَوْمَ القَيَاَمَةِ، فَيَكُونُ مِمَّنْ يَسْتَظِلُّ بِظِلِّ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.

وَرَوَى الإَمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيمِهِ أَوْ مَحَا عَنْهُ كَانَ فِي ظِلِّ العَرْشِ يَوْمَ القِيَامَةِ".

والتَنْفِيْسُ عَنِ المُعْسِرِيْنَ بِإِمْهَالِهِم يُفَرِّجُ كُرُبَاتِهِمْ وَهُمُومَهُم، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ يُجَازِي المُقْرِضَ بِتَنْفِيسِ أَعْظَمِ الكُرُبَاتِ، رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيْحِهِ عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ، طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ، فَقَالَ: آللَّهِ؟ قالَ: آللَّهِ؟ قَالَ: فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهِ اللَّهُ مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ".

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَيْطَانِ الرَّجِيْمِ: (وَإِنْ كَانَ ذُوْ عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)

اللهُمَّ أغْنِنَا بِحَلالِكَ عن حَرَامِكَ، وبفَضْلِكَ عمَّنْ سِواك، اللهُمَّ أعْطِنَا ولَا تحْرِمْنَا، و زِدْنَا ولَا تُنْقِصْنَا، وكُنْ لنا ولا تَكُنْ علينا، واهدِنا ويَسِّرِ الهدى لنَا.

هذا وصلوا وسلموا -يا عباد الله- على من أمركم الله -تعالى- بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن جميع الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم انصر الإسلام والمسلمين

اللهُمَّ وفِّقَ ولاة أمرِنا وعلمائنا إلى ما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ، اللهُمَّ وَفِّقهم للصواب والسداد، اللهم وارزقهم البطانة الناصحة الصالحة، اللهم واحفظهم من كلِّ سوءٍ ومكروه، اللهم وأعزَّ بهم الإسلام والمسلمين، اللهُمَّ وانصُرْ جُنودَنا المرابطين، ثبِّت أقدامَهُم، واجمَعْ كلمَتَهُم، ووحِّد صفُوفَهُم، واشفِ جَرْحَاهُم، وتقبَّلْ شُهدائَهُم، واخلُفهم في أهلهم بخيرٍ يا ربَّ العالمين.

عباد الله! ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.