الخميس، 29 يوليو 2021

خطبة ملخص أحكام صلاة المسافر

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. 

أيها الناس: جعل الله -تعالى- السَيْرَ في الأرض، ومشاهدة ما فيها من عجائب الخلق، والوقوف على أطلال السابقين، وآثار الغابرين؛ تذكرة للقلوب، وموعظة للنفوس، وعبرة بما مضى من القرون (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ

وفيما يتعلق بعجائب المخلوقات في الأرض يقول الله -تعالى-: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ)

وللناس في أسفارهم أغراض متنوعة؛ فمنها أغراض مشروعة ومنها أغراض غير مشروعة، ومنها ما يكون حتماً لا بدَّ للإنسان منه، ومنها أسفار للنزهة والترويح عن النفس، والمؤمن يعبد الله -تعالى- في حله وترحاله، ولا ينفك عن عبوديته لخالقه -سبحانه- بحال.

ولذا فإن الشارع الحكيم خص السفر بأحكام تناسب حال المسافر، فقابل مشقة السفر وعنته وغربة المسافر وشغله بالتخفيف عنه، فخفف عنه في فرائض العبادات.. في عددها وصفتها، ووضع عنه بعض النوافل، وكتب له أجرها مع أنه لم يعملها؛ لأن السفر قد منعه منها فعومل فيها كأنه قد عملها؛ تخفيفاً من الله -تعالى- على عباده، ومراعاة لأحوالهم؛ ولئلا يكون انقطاعهم عن النوافل سبباً لعزوف بعضهم عن السفر مع حاجتهم إليه؛ روى أبو موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: "إذا مرضَ العبدُ أو سافرَ كتبَ لَهُ من العملِ ما كانَ يعملُهُ وَهوَ صحيحٌ مقيمٌ"(رواه البخاري).

إن الصلاة أمرها عظيم، وشأنها كبير.. تلازم المؤمن ما لازمه عقله، فلم توضع عنه في سفر ولا مرض ولا خوف ولا غير ذلك، بل يؤديها على كل حال، إلا أن الله -تعالى- قد خفف عن العبد فشُرع له قصر الرباعية إلى ركعتين، وأصل ذلك قول الله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) وجاء في حديث عن عائشةَ قالت: "فُرِضَتِ الصلاةُ ركعتينِ ركعتينِ في الحضَرِ والسَّفَرِ فأُقِرَّتْ صلاةُ السَّفرِ وزيدَ في صلاةِ الحضَرِ".(رواه الشيخان).

 ولو أتم المسافر صحت صلاته لكنه خالف السنة، وقد نهى ابن عمر -رضي الله عنهما- عن ذلك نهياً شديداً، وقيل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: للرجل أن يصلي في السفر أربعاً؟ قال: "لا، ما يعجبني ذلك، السنة ركعتان". إلا إذا صلى مع جماعة مقيمين أو سمع الأذان فينبغي له الذهاب للمسجد والصلاة مع الجماعة.

ولا يقصر الصلاة في بيته ثم يسافر؛ لأن النبي ﷺ لم يقصر إلا لما باشر السفر؛ ولأنه قد يعرض له ما يمنعه من السفر، ولو باشر السفر وقصر ثم عرض له ما يقتضي رجوعه فإنه لا يعيد صلاته ولو رجع من أول الطريق، أو فاتته الطائرة؛ لأنه أدى الصلاة كما أمر الله -تعالى- ولا يضره ما عرض له فأرجعه، ومن لم يتأكد حجزه فلا يقصر ولا يجمع؛ لاحتمال أن لا يسافر.

وإذا دخل عليه الوقت وهو مقيم ثم سافر فصلى الصلاة في السفر فيقصرها، قال ابن المنذر -رحمه الله تعالى-: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن له قصرها".

وإذا صلّى المسافر خلف المقيم فإنه يصلي أربعاً مطلقاً حتى ولو لم يدرك معه إلا التشهد؛ لأنه مأمور أن يأتم بإمامه، سئل ابن عباس -رضي الله عنهما-: إنَّا إذا كنَّا معكم صلَّيْنا أربعًا، وإذا رجَعْنا إلى رِحالنا صَلَّيْنا ركعتينِ، قال: تِلك سُنَّةُ أبي القاسِمِ ﷺ، يعني إتمامَ المسافرِ إذا اقتدى بالمُقيمِ ، وإلا فالقَصْرُ.

وإذا صلّى المسافر بمقيمين فإنه يقصر وهم يتمون بعد سلامه.

وإذا دخل المسافر مع إمام لا يدري هل يتم أم يقصر فينوي نية الإمام، إن قصر قصر معه، وإن أتم أتم معه.

ولما كان السفر محل تخفيف على المصلي فإن من السنة تقصير القراءة في صلاة السفر وعدم إطالتها، وقد ثبت عن عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يخففون القراءة في أسفارهم فيقرءون في صلاة الفجر بقِصَار الْمُفَصَّلِ، ويتأكد التخفيف في المطارات وصالات القطارات، وموانئ السفن؛ لئلا تفوت الرحلة على المسافرين.

وتسقط السنن الرواتب عن المسافر فلا يأتي بها إلا راتبة الفجر ويأتي الوتر، ويتأكد في حقه المحافظة عليهما في السفر لفعل النبي ﷺ، وله أن يأتي ببقية النوافل من قيام ليل وصلاة ضحى ونفل مطلق، وله أن يتنفل وهو جالس في السيارة أو الطائرة أو القطار أو غير ذلك، ولا يضره عدم استقبال القبلة، وهذا التشريع من الفرص العظيمة للمسافرين أن يقطعوا أسفارهم بالنوافل، ولا سيما أن دعوة المسافر مجابة.


ومن التخفيف في السفر مشروعية الجمع فيه؛ لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:"يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ , إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ , وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ".

ويفعل المسافر في الجمع تقديماً وتأخيراً ما كان أرفق به؛ لأن النبي ﷺ قدَّم الجمع وأخره فدل ذلك على جواز الصورتين؛ ولأن الجمع رخصة للمسافر، والرخصة تقتضي فعل الأرفق به. 

ويشرع الأذان للمسافر ولو كان وحده، وإذا جمع فيؤذن أذاناً واحداً ويقيم لكل صلاة، والأذكار التي بعد الصلاة الأُولى عند الجمع تسقط، وتبقى أذكار الثانية، لكن إذا كان الذكر بعد الأُولى أكثر من الذكر بعد الثانية فيأتي به كما لو جمع بين المغرب والعشاء فيأتي بأذكار المغرب بعد صلاة العشاء.


وإذا جمع المسافر بين المغرب والعشاء فله أن يوتر ولا يحتاج إلى الانتظار حتى يدخل وقت صلاة العشاء.

 ولا يشترط في الجمع نية فلو صلى الظهر ثم بدا له أن يجمع معها العصر جاز له ذلك، لكن إن أراد جمع تأخير فينوي ذلك من وقت الأولى؛ لأنه لا يجوز له أن يؤخر الصلاة عن وقتها بلا عذر.


وإذا جمع في السفر ثم عاد إلى بلده ولم يدخل وقت الصلاة أو لم يصلوا بعد فلا يلزمه إعادة الصلاة، فإن أراد الصلاة معهم كانت الثانية له نافلة.

ومن صلى المغرب في المطار بعد دخول وقتها ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس فصلاته صحيحة ولا يعيد.


وعلى المسافر أن يجتهد في تحرِّي القبلة بسؤال أهل البلد أو تعيينها بالأجهزة الحديثة أو بالنجوم لمن يعرف ذلك، فإن أخطأ مع تحريه وحرصه فلا شيء عليه وصلاته صحيحة، ولو اجتهد اثنان في تحديد القبلة مع معرفتهما، ويقين كل واحد منهما أن الصواب معه فيصلي كل واحد للجهة التي يتيقنها، ولا يجوز لأحدهما أن يتبع الآخر مع يقينه بخطئه. 


ومن عجز عن تحديد القبلة أو عجز عن الصلاة إليها كما لو كان في الطائرة وهي في حالة إقلاع أو هبوط ووقت الصلاة سيخرج صلى إلى غير القبلة، فإن استطاع القيام صلى قائما في مقعده ويومئ للركوع والسجود، فإن منع من القيام صلى جالساً.


أسأل الله -تعالى- أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يوفقنا للعمل بما علمنا؛ إنه سميع مجيب.


  • الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

أيها المسلمون: من رحمة الله -تعالى- بعباده المؤمنين أنه -سبحانه- أباح لهم السفر؛ لما فيه من تحصيل مصالحهم، ثم خفف عنهم فيه لمظنة ما يلحقهم في أسفارهم من مشقة، وقد قال -سبحانه وتعالى-: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ).

واعلموا أن المسافر إذا نوى أن يقيم أربعة أيام أو أقل من ذلك، فإن له أن يقصر ويجمع الصلاة، وكذلك من أقام أكثر من أربعة أيام ولم يُجمِعِ النية على الإقامة، بل عزم على أنه متى قُضِيت حاجته رجع إلى بلده، مهما طالت المدة، أما من تيقن أنه سوف يقيم في سفره أكثر من أربعة أيام، وجب عليه أن يتم؛ (فتاوى اللجنة الدائمة ج 8 ص 109-111).

والمسافر ليس عليه جمعة، وإنما يصلي ظهرًا ولا بأس أن يجمع بين الظهر والعصر.

أما إذا صلى المسافر مع الناس الجمعة في أي بلد فإنه لا يجمع إليها العصر، بل عليه أن يصلي العصر في وقتها .[ابن باز].

ومن الناس من يتهاونون بالصلاة في أسفارهم فيؤخرونها عن وقتها، ومنهم من يترك بعض فروضها فيصلي تارة ويترك تارة، والتهاون بالصلاة فيه وعيد شديد (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا).


ألا فاتقوا الله ربكم في إقامتكم وسفركم، وأقيموا له دينكم، وحافظوا على فرائضكم، وانتهوا عما حرم عليكم؛ فإنكم محاسبون على أعمالكم (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ). 


هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى قدوتنا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كما امرنا بذلك جل وعلا في كتابه ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

اللَّهُمَّ أَدِمْ عَلَى بلادنا خَيْرَهَا وَهَنَاءَهَا، وَتَقَدُّمَهَا وَرِفْعَتَهَا، وَرَخَاءَهَا وَازْدِهَارَهَا، وَانْشُرِ السَّعَادَةَ بَيْنَ أَهْلِهَا، أَنْتَ رَبُّهَا وَوَلِيُّهَا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْ ولي امرنا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ، وَأَدِمْ عَلَيْهِ ‏مَوْفُورَ الصِّحَّةِ ‏وَالْعَافِيَةِ، وَاجْعَلْهُ يَا رَبَّنَا فِي حِفْظِكَ وَعِنَايَتِكَ.

وَارْحَمْ شُهَدَاءَ الْوَطَنِ وَأَجْزِلْ مَثُوبَتَهُمْ، وَارْفَعْ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَتَهُمْ.

اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ والْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ: الْأَحْيَاءَ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتَ. 

اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا وَعَنِ الْعَالَمِينَ الْوَبَاءَ، وَاشْفِ الْمُصَابِينَ بِهَذَا الدَّاءِ، وَعَافِنَا بِفَضْلِكَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

فَاذْكُرُوا اللَّه العظيمَ الْجَلِيل يَذْكُرْكُم واشكروه عَلَى عمومِ نِعَمِه يَزِدْكُم ، ولَذِكرُ اللَّه أكبرُ واللهُ يَعلَمُ مَا تَصنَعُونَ.