الخميس، 28 مارس 2019

خطبة: التستر وظلم العمال


أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَاعْلَمُوا، أَنَّ أَرْزَاقَكُمْ مَكْتُوبَةٌ، وَآجَالَكُمْ مَحْدُودَةٌ، فَلا يُغْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ فَيُوقِعَكُمْ فِي الْحَرَامِ، أَوْ يُوهِمَكُمْ أَنَّ الأَرْزَاقَ لا تَحْصُلُ إِلَّا بِالْكَذِبِ، وَأَنَّ مَنْ يَتَعَامَلُ بِالصِّدْقِ لا مَكَانَ لَهُ فِي عَالَمِ الْيَوْمَ ! فَهَذَا اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ، وَمَسْلَكٌ كَاسِدٌ، بَلْ إِنَّ الصِّدْقَ مَنْجَاةٌ، وَالأَمَانَة مَفَازَةٌ، وَالْخَيْرُ بِيَدِ اللهِ وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللهِ، قَالَ النَّبِيِّ ﷺ (إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إِلَّا قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِه، وَلَيْسَ شَيْءٌ يٌقَرِّبُكُمْ إِلَى النَّارِ إِلَّا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، أَلا فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ، فَإِنَّ اللهَ لا يُدْرَكُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ) رَوَاهُ البَزَّارُ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ عِظَمِ هَذَا الدِّينِ وَفَضْلِهِ أَنَّهُ حَفِظَ لِلْمُسْلِمِ أُمُورَ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَمَا يُصْلِحُ حَيَاتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَهُوَ دِينٌ حَوَى الْمَحَاسِنَ كُلَّهَا، وَأَلْزَمَ النَّاسَ بِأَوَامرَ، وَرَتَّبَ طَاعَاتِ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ، فَأَوْجَبَ طَاعَةَ اللهِ، وَطَاعَةَ رَسُولِهِ ﷺ ثُمَّ طَاعَةَ وَلِيِّ الْأَمْرِ فِي غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لِطَاعَةِ اللهِ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ ﷺ فَطَاعَةُ وَلِيِّ الْأَمْرِ فِيمَا فِيهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ تُعَدُّ طَاعَةٌ لِلَّهِ، وَطَاعَةُ وَلِيِّ الْأَمْر فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ تُعَدُّ طَاعَةٌ لِلَّهِ.
وَوَلِيُّ الْأَمْرِ هُوَ الْمَسْؤُولُ عَنْ سِيَاسَةِ النَّاسِ، وَمُرَاعَاةِ مَصَالِحِهِمْ، وَحِمَايَتِهِمْ مِنَ الْأَضْرَارِ الْمُحِيطَةِ بِهِمْ، فَعِنْدَهُ الاطِّلَاعُ وَالشُّمُولِيَّةُ فِي الْمَعْرِفَةِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ فَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ قَائِدٍ وَإِمَامٍ يَقُومُ بِسِيَاسَتِهِمْ، وَمُرَاعَاةِ مَصَالِحِهِمْ، إنَّ التَّنْظِيمَ الِّذِي تَسْعَى لَهُ الدَّوْلَةُ لَهُ أَسْبَابُهُ وَدَوَافِعُهُ، وَهِيَ الْأَعْلَمُ بِمَصَالِحِ النَّاس.
وَمِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا وَالْتِزَام طاعة ولي الأمر فيها: اجتناب التَّسَتُّرُ الَّذِي جَلَبَ الشَّرَّ وَالْوَيْلَاتِ لِلْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَأَفْسَدَ غَايَةَ الْفَسَادِ، وَالتَّسَتُّرُ مُحَرَّمٌ بِالشَّرْعِ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَذِبًا وَزُورًا وَتَدْلِيسًا، وَمُجَرَّمٌ في النِّظَامِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةٍ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ وَالْأَنْظِمَةِ الَّتِي رُتِّبَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْقَرارَاتُ.
وَالتَّسَتُّرُ -بِاخْتِصَارٍ- أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَاتُ، أَوِ الْمُؤَسَّسَاتُ، أَوِ الْمَحِلَّاتُ الصَّغِيرَةُ أَوِ الْكَبِيرَةُ فِي الظَّاهِرِ بِاسْمٍ، وَمَالِكُهَا الْحَقِيقِيُّ شَخْصٌ آخَرُ خَوَّلَ لَهُ الْمُتَسَتَّرِ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهَذَا الْعَمَلِ، وَأَنْ يُنْشِئَ هَذَا الْمَقَرَّ، وَأَنْ يَعْمَلَ لِحِسَابِهِ الشَّخْصِيِّ فِي الْبَاطِنِ، وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ وَأَمَامَ الْجِهَاتِ الْمَسْؤُولَةِ وَالرِّقَابِيَّةِ فَهِيَ بِاسْمِ مَنْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهُ الشُّرُوطُ، فَيَعْبَثُ الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِاسْمِ الْمَالِكِ الصُّورِيِّ الَّذِي يَكُونُ فِي النِّهَايَةِ ضَحِيَّةً لِلْمَالِكِ الْحَقِيقِيِّ.
والتَّسَتُّرُ أَنْوَاعٌ؛ وَمِنْ أَخْطَرِهَا:
أَوَلَّا/ أَنْ يُنْشِئَ مُواطِنٌ مَحِلًّا، وَيَسْتَخْرِجَ أَوْرَاقَه النِّظَامِيَّةَ بِاسْمِهِ وَالْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ لَهُ والمدير له شَخْصٌ آخَرُ، الذي سَلَّمَ لَهُ الْمَالِكُ الصُّورِيُّ كَافَّةَ الصَّلَاحِيَّاتِ، وُهُنَا حَلَّتِ الْأَضْرَارُ بِالْبَلَدِ حِينَمَا نُهِبَتْ خَيْرَاتُهُ، وَأُخْرِجَتْ بِغَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ أَمْوَالُهُ.
ثَانِيًا/ مِنَ التَّسَتُّرِ أَنْ يُنْشِئَ إِنْسَانٌ مَحِلًّا ثم يَعْمَلَ فِيهِ بَعْضُ الْعِمَالةِ لَا يُخَوِّلُ لَهُمُ النِّظَامُ الْحُصُولَ على رخصة العمل فسيتقدمه على أنه راعي أغلام أو سائق خاص ثم يجعله يعمل عملاً آخر وهذا من الكذب والغش والتحايل على الأنظمة والقوانين.
فَعَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ فِي أَنْفُسِنَا وَفِي أَهْلِينَا، وَأَنْ نَبْتَعِدَ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ الْمُشِينِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ وَالنِّظَامِ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ التَّسَتُّرَ فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ، وَالتَّدْلِيسِ، وَالْفَسَادِ، وَتَدْمِيرِ الْأُسْرَةِ، وَتَشْتِيتِ شَمْلِها مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَلَا نُلْقِي الْكَلَامَ عَلَى عَوَاهِنِهِ مِنْ دُونِ عَلْمٍ أَوْ دِرَايَةٍ.
وَمِنْ أَخْطَرِ أنْوَاعِ التَّسَتُّرِ وَالْجُرْحِ الَّذِي يَصْعُبُ انْدِمَالُهُ، وَالْخَرْقِ الَّذِي يَصْعُبُ رَقْعُهُ: التَّسَتُّرُ الْأُسَرِيُّ؛ حَيْثُ يَقُومُ أَحَدُ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ الَّذِي لَا يُخَوِّلُ لَهُ النِّظَامُ افْتِتَاحَ الْمَحِلَّاتِ، أَوْ يُلْزِمُهُ بِشُرَكَاءَ فِي حَالِ تَغْييرِ نِظَامِ نَشَاطِهِ، فَيُنْشِئُ الْمُنْشَأَةَ بِاسْمِ قَرِيبِهِ أَوْ قَرِيبَتِهِ، أَوْ أُخْتِهِ أَوْ أَخِيهِ، أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ ابْنِهِ، وَهُنَا يَقَعُ الضَّرَرُ مِنَ التَّسَتُّرِ، لأن المسؤول -نِظَامًا- مَنْ كَانَتِ الْمُنْشَأَةُ بِاسْمِهِ.
ولا يجوز أن يُفهم هذا الأمر على أنه كره أو عداوة لغير المواطنين فنحن نُكِنُّ كُلَّ الْحِبِّ وَالتَّقْدِيرِ لِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيِّ جِنْسِيَّةٍ وَمِنْ أَيِّ بَلَدٍ، سَوَاءٌ كَانُوا عُمَّالًا أَوْ مُوَظَّفِينَ أَوْ غَيْرَهُمْ، وَيَجِبُ أَنْ نَتَذَكَّرَ دَائِمًا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وَنَتَذَكَّرُ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ)، (والْأَمْرُ الآخر) أَنَّ الرِّزْقَ مِنَ اللهِ وَمِنْ عِنْدِ اللهِ، وَلَيْسَ فِي السُّعُودِيَّةِ أَوْ عِنْدَ السُّعُودِيِّينَ، فَلَوْ حَصَلَ وَغَادَرَ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَاننِاَ الْبَلَدَ بِاخْتِيَارٍ مِنْهُ أَوْ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ فَرِزْقُهُ عَلَى اللهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَي نَفْسِ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِنَا حِقْدٌ أَوْ بُغْضٌ لِإخْوَانِهِ أَوْ يَقُولُ: قَطَعُوا رِزْقَنَا، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَةِ الْمَتِينُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَحَفِظَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ شَرِّ كُلِّ مَنْ بِهِ شَرٌّ.
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّنَا كَمَا نُحَذِّرُ مِنَ التَّسَتُّرِ التِّجَارِيِّ وَنَطْلُبُ مِنَ الْجَمِيعِ التَّقَيُّدَ بِأَنْظَمِةِ الدَّولَةِ التِي جُعِلَتْ لِخِدْمَةِ الْمُوَاطِنِ، فَإِنَّنَا كَذَلِكَ نُحَذِّرُ مِنْ ظُلْمِ الْعُمَّالِ وَاسْتِغْلَالِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَنْظَمِةِ لِلضَّغْطِ عَلَيْهِمْ أَوْ أَكْلِ حُقُوقِهِمْ، فَإِنَّ هَذا لا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَعَلَيْكَ أَيُّهَا الْكَفِيلُ أَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِيمَنْ تَحْتَ يَدِكَ، وَاحْذَرْ عُقُوبَةَ اللهِ الْعَاجِلَةِ أَوِ الآجِلَةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ (إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رَوَاهُ مُسْلِم، ثُمَّ اعْلَمْ يَا مُسْلِمُ أَنَّكَ إِذَا أَكَلْتَ حَقَّ الْعَامِلِ الْمِسْكِينِ فَإِنَّ اللهَ يُخَاصِمُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ الْعَامِلَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ (قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ومن ظلم العامل، تأخير راتبه الذي تغرّب لأجله وخلّف أسرة تنتظر هذا المرتب، وهو حق له ليس لأحد فيه معروف، فهو جهده وعرق جبينه، ومع ذلك يتثاقل الكفيل ويماطل ويؤجّل، عَنْ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه ﷺ: (أَعْطُوا الأَجير أجرهُ قبل أن يَجِفَّ عَرَقُهُ) رواه ابن ماجة.
واعلموا أنه لايجوز بيع الفيز كَمَا أفْتَتْ بذلك اللجنة الدَّائِمُةُ لِلْإِفْتَاءِ برئاسة سماحة العلامة ابن باز -رحمنا الله وإياه- بِتَحْرِيمِ بَيْعِ “الفِيَزا” مُطْلَقًا؛ “لِأَنَّ فِي بَيْعِها كَذِبًا، وَمُخَالَفَةً، وَاحْتِيَالاً عَلَى أَنْظِمَةِ الدَّوْلَةِ، وَأَكْلاً لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ، قَالَ اللهُ تَعَاَلى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾.
وَثَمَنُ “الْفِيزَا” الَّتِي بِعْتَهَا، وَالمبالغ والنِّسَبُ الِّتِي تَأْخُذُهَا مِنْ الْعُمَّالِ كَسْبٌ مُحَرَّمٌ، يَجِبُ عَلَيْكَ التَّخَلُّصُ مِنْهُ، بِأَنْ تُنْفِقَهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، مِنْ فُقَرَاءَ، وَإِنْشَاءِ وَبِنَاءِ مَرَافِقَ تَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقَّاً وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَه، وَأَرِنَا البَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَه وَلا تَجْعَلْهُ مُلْتَبِساً عَلَيْنَا فَنَضِلّ، اَللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَعَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَارْزُقْنَا عِلْمًا يَنْفَعُنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ اسْتَمَعَ الْقَوْلَ فَاتَّبَعَ أَحْسَنَه، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ عَرَفَ الْحَلالَ فَأَتَاه وَعَرَفَ الْحَرَامَ فَاجْتَنَبَه يَا رَبَّ الْعَالَمِين!
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير خلق الله أجمعين، كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ وقال ﷺ: (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللَّهُمَّ انْصُرْ دِينَكَ وَكِتَابَكَ وَعِبَادَكَ الصَّالِحينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ والْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا، وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالْمِحَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَمَا بَطَن.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ، وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمَا سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ، حَرْبًا عَلَى أَعْدَائِكَ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَاقْمَعْ رَايَةَ الْبِدْعَةِ، اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ الْمُجَاهِدِينَ الْمُرَابِطِينَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الخميس، 21 مارس 2019

خطبة: أداء الحقوق والمماطلة فيها

أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى ايها الناس اتقُوا الله حقَّ التّقوى واستمسكوا بالعروة الوثقى.
عبادَ الله، إنّ مِن خُلُق المؤمن وفاءَه بالعهودِ والتِزامَه بالعقود، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾، فهو إذا وعَد أوفَى، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾. هَكذا خلُق المؤمن، صِدقٌ في تعاملِه، فلا كذِبَ ولا غِشَّ، ولا خيانة ولا غَدر، ولكن التزامٌ بما التزَم به ووفاءٌ بهذا كلِّه؛ طاعةً لله وعبادةً يتقرَّب بها إلى الله.
وليس من خلق المؤمن جحد حقوق العباد والمماطلة فيها.
فيحرم على المسلم أن يماطل أو يتأخر في سداد الدَّين الذي عليه وهو قادر على الوفاء، فمن مات وعليه دين لن يغفر له دينه حتى لو كان شهيداً، قال ﷺ: (يغْفِرُ اللَّه للشَّهيدِ كُلَّ ذنب إلاَّ الدَّيْنَ)، والمماطلة في سداد الدين من الذنوب العظيمة التي نهى عنها الرسول ﷺ وهو داخل في ظلم الأموال وقد عدها بعض أهل العلم من الكبائر، ولذلك قال النبي ﷺ: (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ). متفق عليه. وقد نص الفقهاء على أن المماطل فاسق ترد شهادته لظلمه وتهاونه بالحقوق.
وهذا التصرف من المدين يحل للدائن أن يشتكيه عند الحاكم ويحل للحاكم حبسه حتى يوفيه دينه لأنه ظلمه في ماله لقول الرسول ﷺ: (لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ). رواه أبوداود. وإذا لم يجد سبيلا عليه أبيح له أن يدعو عليه لأنه مظلوم والشرع جعل للمظلوم دعوة مستجابة كما قال النبي ﷺ: (اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ). متفق عليه.
والمماطل المذموم شرعا والمستحق للتعزير في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو القادر على الوفاء بماله أما المعسر الذي لا يجد مالا ولا يستطيع الوفاء فمعذور شرعا ولا يحل شكايته ويجب إنظاره لأنه معذور ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولذلك قال الله عز وجل: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ).
ومن كان عنده دين لأحد قد مات فإنه يسلمه لورثته إذا مات، ولا يكتم ذلك ولا يتصدق به، بل يعطيه للورثة.
وإذا كان على الإنسان دين ولم يجد صاحب الدين، بأن: انتقل إلى مكان آخر أو سافر، ولم يدر عنه ولم يعرفه، فإنه بعد التحري وبعد بذل المستطاع في التعرف عليه أو على مكانه، فإذا عجز فإنه ينتظر المدة المناسبة لعله يأتي صاحبه إليه، وإن لم يأت فإنه يتصدق بذلك على الفقراء والمساكين، أو يصرف ذلك في بعض المشاريع الخيرية، كتعمير المساجد وما أشبه ذلك، ويكون الأجر لصاحبه، ينويه عن صاحب المال، ثم إذا جاء صاحب المال فهو بالخيار، إن شاء قبل الصدقة وصارت له الصدقة، وإن شاء طلب حقه فتعطيه حقه ويكون الأجر لك فيما تصدقت به.
واعلموا ياعباد الله أنه يحرم تأخير مستحقات الاجراء كالعمال والموظفين يحرم تأخيرها عن وقت الاستحقاق، وهو تمام العمل، أو نهاية المدة المتفق عليها، فإذا كان الاتفاق على جعل الراتب شهريا، لزم دفعه للعامل في نهاية كل شهر، وتأخيره عن ذلك من غير عذر يعد مطلاً وظلما كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ) صححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة (14/390): عن صاحب عمل لا يعطي العاملين لديه أجورهم إلا عند سفرهم لبلادهم، والعاملون يرضون بذلك لقلة حيلتهم وقلة فرص العمل ولحاجتهم للمال.
فأجابوا:"الواجب: أن صاحب العمل يعطي الأجير عنده راتبه بعد نهاية كل شهر، كما هو المتعارف عليه بين الناس اليوم، لكن إذا حصل اتفاق وتراض بينهما على أن يكون الراتب مجموعا بعد سنة أو سنتين فلا حرج في ذلك ؛ لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (المسلمون على شروطهم)" انتهى.
ويجب على من يقوم بالعمل أن يلتَزِم ويقومَ بالواجب فإذا أخلّ العامل أو الأجير بشرط العمل أو انسحب أو هرب قبل تمام العمل المتفق عليه، فإنه لا يستحق الأجرة المتفق عليها (الراتب) إلا إذا أتم ما يطلب منه من الأعمال المتفق عليها في العقد.
وجاء في" فتاوى اللجنة الدائمة" ( 15 / 153):
" الواجب على من وكل إليه عمل يتقاضى في مقابله راتبا أن يؤدي العمل على الوجه المطلوب، فإن أخل بذلك من غير عذر شرعي لم يحل له ما يتقاضاه من الراتب" انتهى.
فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه وردوا الحقوق إلى أهلها، واعلموا أن الله لم يجعل رزقكم فيما حرم عليكم: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا)
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اما بعد فيا عباد الله: إن أذية الناس لا تقتصر على الحقوق فقط فلها أنواع كثيرة خطيرة منها: أذية الناس بإزعاجهم بأصوات السيارات أو مايسمى بالبوري من غير حاجة عند البيوت وفي الأسواق وفي المنتزهات، أو أصوات برفع أصوات الأغاني والشيلات أو الرقص والصراخ خاصة في الأماكن العامة، أو إزعاجهم بالرمي بالأسلحة أو بالألعاب النارية.
ومن أذية الناس مضايقتهم في طرقاتهم وشوارعهم وفي الأماكن العامة بإلقاء الأذى فيها من النفايات والأوساخ والنجاسات، وبعض الناس لا يبالي بوضع هذه الأشياء في طرقات المسلمين، ولا يبالي بالمحافظة على البيئة، وقد أخبر النبي ﷺ أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة وأنها من شعب الإيمان، مما يدل على أنه مطلوب من المسلم أن يزيل الأذى عن طريق المسلمين، فكيف بمن يؤذي المسلمين في طرقاتهم وأماكنهم العامة.
أيها الإخوة الكرام: لا تؤذوا الناس، واحرصوا على الطيبات، وتحلوا بالأخلاق الحسنة والتيسير على عباد الله؛ كما قال الله - تعالى -: ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا
وصلوا وسلموا -يا عباد الله- على من أمركم الله -تعالى- بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن جميع الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين
اللهم عليك بمن سفك دماء المسلمين، اللهم عليك بمن اعتدى على حرمات بيوت الله، اللهم عليك به وبمن عاونه وأيده، اللهم أجعل تدبيرهم تدميراً عليهم يارب العالمين.
اللهم ارحم من مات من اخواننا المسلمين في نِيُوزِلَنْدَا اللهم ارحم الْقَتْلَى، وَايَجْعَلَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُمْ، وَارْبِطَ عَلَى قُلُوبِ ذَوِيهِمْ بِالصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ، اللهم عَافِي الْجَرْحَى وعليك بمن اعتدى عليهم.
اللَّهُمَّ احْقِنْ دِماءَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ. اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بالطغاة الظالمين وَمَنْ أَعَانَهُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَالمُنافِقِينَ. اللهم آمنا في أوطاننا...
عباد الله! ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.



الثلاثاء، 12 مارس 2019

خطبة: زكاة بهيمة الأنعام

أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثُاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ، الزَّكَاةُ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ، وَثَالِثُ أَرْكَانِهِ، لا يتم إسلام المرء إلا بإقامته، وهي جزء من المال فرضه الله تعالى على أصحاب الأموال يجب إخراجه للمستحقين؛ طهارةً لنفس صاحبه من الشح، ونماءً وبركةً وزيادة في المال: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَدْيِهِ.
عِبَادَ اللهِ، يَتَسَاهَلُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي إِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَيَتَثَاقَلُونَ عَنْ إِخْرَاجِهَا، ويتحايلون عليها، حَتَّى يُعَطِّلَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ هَذَا الرُّكْنَ الْعَظِيمَ، وَبَعْضُهُمْ مِنَ: الْمُصَلِّينَ، الصَّائِمِينَ، الْقَارِئِينَ لِلْقُرْآنِ، لَكِنَّهُ لَا يُؤْتِي الزَّكَاةَ، يَفْعَلُ النَّوَافِلَ، وَيَذَرُ الْفَرَائِضَ؛ واللهَ تَعَالَى جَعَلَ مَنْعَ الزَّكَاةِ مِنْ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِنِعَمِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
فاحذروا من التهاون في أداء الزكاة فإنها ركن من أركان الإسلام، قَالَ تَعَالَى ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾.
أيها المؤمنون: أنصبة الزكاة ومقاديرها في كل صنف من أصناف بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، مبينة بياناً تاماً، فعن أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ ﷺ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلا يُعْطِ: فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا، مِنْ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ. إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلا أَرْبَعٌ مِنْ الإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا -صاحبها-، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنْ الإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ).
ويجب التأكد من سلامة المُخْرَجُ من الزكاة، ومراعاة الأنوثة فيما ورد النص به،ِ كما هو الحال في الإبل، وأيضاً: مراعاة السن المحدودة شرعاً، وأن يكون المُخْرَجُ وسطاً بين الأجود والرديء.
وزكاة بهيمة الأنعام، مقيدة بشرطين:
الأول: أن تكون سائمة، بمعنى أنها تَعلف وحدها من الحشائش والنباتات الموجودة بالمراعي، وأما إذا كان صاحبها يتكلف عليها العلف أكثر أيام السنة، فلا زكاة فيها.
الثاني: أن يكون القصد من اتخاذها الدَّر والنسل أي: من أجل لحمها ولبنها ونسلها، أما لو اتخذها للعمل عليها في الحرث أو السقي أو الركوب أو أي وجه من وجوه الاستعمال: فلا زكاة فيها.
وهذا ما قرره جمهور أهل العلم من أن "العوامل" لا زكاة فيها.
فلو كان في الإبل ناقة معدة للركوب فإنها لاتحسب مع الإبل عند الزكاة.
وكذلك الإبل المتخذة للسباق لا زكاة فيها، سواء أكان صاحبها يعلفها أم لا، وذلك لأنها تعد من العوامل، ولأن صاحبها لا يتخذها للدَّر والنسل، بل للجري والركوب والمسابقة، ولا يقصد من ورائها لحماً ولا لبناً.
ففي فتاوى اللجنة الدائمة" (8/28) قالوا " إذا كانت هذه الإبل معدة للسباق بقصد الحصول على الجائزة التي تمنح لصاحب السابق منها ولم تعد للبيع - فلا زكاة فيها بنفسها، وإنما تجب الزكاة فيما يحصل عليه من نقود بسبقها إذا تم الحول على حصوله عليها، وبلغت هذه النقود نصابا، بأن يخرج ربع العشر منها، أي: ريالان ونصف في المائة ".
أما إذا قصد من اتخاذ " الإبل" المتاجرة بها، وجعلها رأس مال يتاجر به، ففي هذه الحال تزكى زكاة عروض التجارة لا زكاة السائمة, تزكى حتى لو كانت ناقة واحدة فيقيم سعرها بعد الحول ويخرج الزكاة.
فيتم تقييمها بحسب سعرها في السوق يوم وجوب الزكاة ويخرج عن قيمتها (2.5%).
ولايصح أن تدفع الزكاة بحِسَابِ مدينة أخرى غير التي أنت فيها، مثلا يكون في الرياض مثلاً قيمة الْحِقَّةِ أقل من قيمتها في الشرقية فيدفع حسب قيمة الْحِقَّةِ في الرياض وهذا من التحايل ولا يصح. ولا يجوز تأخير إخراج الزكاة.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فاعلموا يا عِبَادَ اللهِ، أن وَضْعُ الزَّكَاةِ فِي غَيْرِ مَصْرِفِهَا؛ كَالصَّلَاةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا؛ فَإِنَّ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا، الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ ،لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى زَكَاةً.
قال تَعَالَى ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
فَهَؤُلَاءِ هم الذين يعطون من الزكاة سواء زكاة بهيمة الأنعام أو زكاة المال:
الْأَوَّلُ والثَّانِي: الفقراء ، والمساكين ، وهؤلاء يعطون من الزكاة لدفع ضرورتهم وحاجتهم ، والفرق بين الفقراء والمساكين : أن الفقراء أشد حاجة ، لا يجد الواحد منهم ما يكفيه وعائلته لنصف سنة ، والمساكين أعلى حالاً من الفقراء ؛ لأنهم يجدون نصف الكفاية فأكثر دون كمال الكفاية ، وهؤلاء يعطون لحاجتهم .
الثَّالِثْ الْعَامِلُونَ عَلَيهَا: وَهُمْ الَّذِينَ يُوَكِّلُهمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ بِجِبَايَتِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَيُعْطَوْنَ مِنَ الزَّكَاةِ، يُعْطِيهُمْ الْحَاكِمُ، لَا صَاحِبُ الْمَالِ، وَلَا يَأْخُذُونَهُ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ.
وَفِي هَذَا الْعَصْرِ أَصْبَحَ الْحَاكِمُ يُعْطِي لَهُمْ رَوَاتِبَ عَلَى مَدَارِ الْعَامِ. فَلَا يَجُوزُ لَهُمُ الْاِعْتِدَاءُ عَلَيْهَا بِالْأَخْذُ مِنْهَا، وَمُسَاوَمَةِ أَصْحَابِهَا.
ويجوز دفع الزكاة لعمال جباية الزكاة لإصالها لمستحقيها لِأَنَّهُمْ مُوَكَّلُونَ مِنْ وُلَاةِ الأَمْرِ وَفَقَهُمُ اللهُ، لَكِنْ الأفضل للإنسان يوزع زكاته بنفسه على أهلها المستحقين لها.
الرَّابِعُ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهمْ: وَهُمْ الذين يضعف إيمانهم ، فيعطون ما يقوي إيمانهم ، من رؤساء العشائر والقبائل، وسادات الناس ، أو كفار يرجى إسلامهم ، أو إسلام نظائرهم ، أو كبار الناس الذين يرجى بعطائهم من الزكاة إسلامهم إن كانوا كفاراً ، أو يرجى من عطائهم أن يدفعوا عن الناس، وأن يحموا بلاد المسلمين، ويكفوا الشر عن بلاد المسلمين ،أو رجل دخل في الإسلام حديثاً ، يحتاج إلى تأليفه وقوة إيمانه بإعطائه ؟ ففي هذه المصالح وأشباهها يعطون من الزكاة.
الْخَامِسُ الرِّقَابُ: وَيَدْخُلُ فِيهَا شِرَاءُ العبيد مِنَ الزَّكَاةِ وَإِعْتَاقِهِ، وَمُعَاوَنَةِ الْمُكَاتِبِينَ وهو الذي يريد أن يشتري نفسه بثمن مؤجل، وَيدخل فيها فَكِّ الْأَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
السَّادِسُ الْغَارِمُونَ: وَهُمْ الْمَدِينُونَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُوفُوا مِنْهُ دُيُونَهُمْ، فَهَؤُلَاءِ يُعْطَوْنَ مَا يُوفُونَ بِهِ دُيُونَهُمْ قَلِيلَةً كَانَتْ أَمْ كَثِيرَةً.
ويشمل من عليه دية، فإذا تقرر أن الدية على القاتل، فإن كان فقيراً عاجزاً عن دفع الدية، فلا مانع من إعطائه من الزكاة باعتباره من الغارمين.
وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ مِنْ جِهَةِ الْقُوتِ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ هُنَاكَ رَجُلاً لَهُ مَوْرِدٌ يَكْفِي لِقُوتِهِ وَقُوتِ عَائِلَتِهِ، إِلَّا أَنَّ عَلَيْهِ دَيْناً لَا يَسْتَطِيعُ وَفَاءَهُ، فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ مَا يُوَفَّي بِهِ دَيْنَهُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يُسْقِطَ الدَّيْنَ عَنْ مَدِينِهِ الْفَقِيرِ، وَيَنْوِيهِ مِنَ زَكَاةِ الْمَالِ؛ فَهَذَا تَحَايُلٌ لِحِفْظِ مَالِهِ مِنَ الضَّيَاعِ، لَا دَفْعًا للزَّكَاةِ.
السَابِعُ فِي سَبِيلِ اللهِ: وَهُوَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ فَيُعْطَى الْمُجَاهِدُونَ مِنَ الزَّكَاةِ مَا يَكْفِيهِمْ لِجِهَادِهِمْ، وَيَشْتَرِى مِنَ الزَّكَاةِ آَلَاتٌ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وكذلك تعطى لطَالِبُ الْعِلْمِ الشَّرْعِي.
الثَّامِنُ ابْنُ السَّبِيلِ: وَهُوَ الْمُسَافِرُ الَّذِي انْقَطَعَ بِهِ السَّفَرُ؛ فَيُعْطَى ِمِنَ الزَّكَاةِ مَا يُوصِلُهُ لِبَلَدِهِ.
فَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الزَّكَاةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ فَرِيضَةً مِنْهُ صَاِدرَةً عَنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزكاة لغَيْرِ هذه الأصناف الثمانية؛ لِأَنَّ اللهَ ذَكَرَ مُسْتَحِقِّيهَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ، وَالْحَصْرُ يُفِيدُ نَفِيَ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِ الْمَحْصُورِ فِيهِ. فلا يجوز دفع الزكاة لبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ مثلا.
ويجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد أخرى، ولكن الأفضل أن يفرقها في بلده؛ إلا إذا كان في النقل مصلحة، مثل أن يكون له أقارب في بلد آخر من أهل الزكاة، فيريد أن ينقلها إليهم، أو يكون البلد الآخر أكثر حاجة من بلده فينقلها إليهم؛ لأنهم أحوج فإن هذا لا بأس به.
عبادَ الله: اكثروا من الصلاة على نبيكم فقد أمركم بذلك ربكم فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن جميع الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللَّهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الفِتَنِ وَالمِحَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن،
اللَّهُمَّ اِحْفَظْ لِبِلَادِنَا أَمْنَهَا وَإِيمَانَهَا وَاِسْتِقْرَارَهَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ،
الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى وجميع ولاة المسلمين، اللهم خُذْ بِنَاصِيَتِهِم لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَصْلِحْ بِهِم الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَاِقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ.
الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَوَلِّ عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ وَاِكْفِهِمْ شَرَّ شِرَارِهِمْ.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾.