أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى - أَيُّهَا النَّاسُ - حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، اتَّقُوا اللهَ فِي أنفُسِكُم، وفِي أسْمَاعِكُم، وَأبْصَارِكُم؛ فَسَتُسْأَلُونَ عَنْ كُلِّ هَذَا: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾
عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...﴾
غَضُّ البَصَرِ: (حِفْظُهُ، وَكَفُّهُ، وَصَرْفُهُ عَمَّا لَا يَحِلُّ)
غَضُّ البَصَرِ عَنِ المُحَرَّمَاتِ أمْرٌ مِنَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا لِلرِّجَالِ: ﴿يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ وَلِلنِّسَاءِ: ﴿يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾.
غَضُّ البَصَرِ وَحِفْظُ الفَرْجِ؛ طَهَارَةٌ، وَنَقَاءٌ، وَزَكَاءٌ: ﴿ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾.
غَضُّ البَصَرِ قَطْعٌ لِخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ؛ وَسَدٌ مَنِيعٌ بِإِذْنِ اللهِ دُونَ الفَوَاحِشِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ: ﴿يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ يَقُولُ ابنُ عَاشُورٍ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْأَمْرُ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْغَضِّ مِنَ الْأَبْصَارِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ رَائِدُ الزِّنَى.
غَضُّ البَصَرِ عَنِ النِّسَاءِ مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، وَمِنْ شِيَمِ الرِّجَالِ، وَكَمَا لَا يَرْضَى الرَّجُلُ أنْ يَنْظُرَ الرَّجِالُ إِلَى مَحَارِمِهِ؛ فَمِنَ المُرُوءَةِ ألَّا يَنْظُرَ هُوَ لِمَحَارِمِ غَيرِهِ.
غَضُّ البَصَرِ عِبَادَةٌ عَظِيمَةُ الجَزَاءِ وَالثَّوَابِ؛ وَإِطْلَاقُهُ فِي المُحَرَّمَاتِ مَعْصِيَةٌ يَسْتَحِقُّ مُرْتَكِبُهَا العِقَابَ، وَهُوَ فِتْنَةٌ مِنْ أَشَدِّ الفِتَنِ، وَأَخْطَرِهَا، وَأَضَرِّهَا.
وَلِهَذَا تَحَدَّثَ العُلَمَاءُ عَن غَضِّ البَصَرِ كَثِيراً، وَحَذَّرُوا مِنْ إْطْلَاقِهِ فِيمَا لَا يَحِلُّ تَحْذِيرًا شَدِيدًا.
حَتَّى قَالَ ابْنُ الجَوزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: وَإِنَّمَا بَالَغَ السَّلَفُ فِي الغَضِّ؛ حَذَرًا مِنْ فِتْنَةِ النَّظَرِ، وَخَوْفًا مِنْ عُقُوبَتِهِ.
فَأَمَّا فِتْنَتُهُ فَكَمْ مِنْ عَابِدٍ خَرَجَ عَنْ صَوْمَعَتِهِ بِسَبَبِ نَظْرَةٍ، وَكَمِ اسْتَغَاثَ مَنْ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ...الخ.
وَيَقُولُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: فَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ؛ أَوْرَدَ نَفْسَهُ مَوَارِدَ الْمُهْلِكَاتِ.
وَقِيلَ لِلإِمَامِ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ: رَجُلٌ تَابَ، وَقَالَ: لَو ضُرِبَ ظَهْرِي بِالسِّيَاطِ مَا دَخَلْتُ فِي مَعْصِيَةٍ، غَيْرَ أنَّهُ لَا يَدَعُ النَّظَرَ؟ فَقَالَ: أيُّ تَوبَةٍ هَذِهِ؟
أَلَا فَلْنَتَّقِ اللهَ، وَلْنُجَاهِدْ أَنْفُسَنَا عَلَى غَضِّ أَبْصَارِنَا، وَلْنَسْعَ بِجِدٍ فِي كُلِّ مَا يُعِينُ عَلَى حِفْظِهَا.
وَإِنَّ مِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ: مَعْرِفَةُ المَصَالِحِ فِي غَضِّ البَصَرِ وَحِفْظِهِ، وَالمَفَاسِدِ فِي إِطْلَاقِهِ.
فَأَعْظَمُ مَصْلَحَةٍ فِي حِفْظِهِ: الِاسْتِجَابَةُ وَالِامْتِثَالُ وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ؛ كَمَا أنَّ أَعْظَمَ مَفَاسِدِه: المُخَالَفَةُ لأمْرِ اللهِ وَرَسُوِلِهِ ﷺ.
وحِفْظ البَصَرِ حِفْظٌ لِلْقَلبِ، وَتَضْيِيْعَهُ تَضْيِيْعٌ لِلْقَلْبِ؛ وَنَظْرَةٌ مُحَرَّمَةٌ؛ قَدْ تُفْسِدُ عَلَى صَاحِبِهَا قَلْبَهُ.
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: فَالنَّظَرُ دَاعِيَةٌ إلَى فَسَادِ الْقَلْبِ؛ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: النَّظَرُ سَهْمُ سُمٍّ إلَى الْقَلْبِ.
وغُضُّ البَصَرِ سَبَبٌ لِلسَّلَامَةِ مِنْ فِتَنَةٍ عَظِيمَةٍ؛ وَصَفَهَا النَّبِيُّ ﷺ بِقَولِهِ: (مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ) رواه البخاري.
غُضُّ البَصَرِ حِفْظٌ لِلْعَينِ مِنَ الزِّنَا؛ ففي الحديث: (فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ) رواه البخاري ومسلم.
سُئِلَ أَحَدُ السَّلَفِ: بِمَ يُستَعَانُ عَلَى غَضِّ البَصَرِ؟ قَالَ: بِعِلمِكَ أَنَّ نَظَرَ اللهِ إِلَيكَ أَسبَقُ مِن نَظَرِكَ إِلَى مَا تَنظُرُه.
فَإِذَا دَعَتِ النَّفْسُ وَالهَوَى لِلنَّظَرِ المُحَرَّمِ؛ فَلْتُذَكَّرْ بِقَولِ اللهِ تَعَالَى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾
وَبِقَولِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لِلهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ؛ أمَّا بَعدُ:
فَإِنَّ مِنْ أعْظَمِ العَونِ عَلَى تَرْكِ المَعَاصِي؛ سَوَاءً النَّظَرَ المُحَرَّمَ أَمْ غَيْرَهُ: المُحَافَظَةُ عَلَى الفَرَائِضِ وَالإِكْثَارُ مِنَ النَّوَافِلِ؛ وَفِي الحَدِيثِ: (احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ)
وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى غَضِّ البَصَرِ: مَا أوْصَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ). رَوَاه البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ صَرْفُ النَّظَرِ؛ يَقُولُ جَرِيرُ بْنِ عَبْدِ اللهِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي) رواه مسلم.
قَالَ النَوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ بَصَرَهُ فِي الْحَالِ؛ فَإِنْ صَرَفَ فِي الْحَالِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَدَامَ النَّظَرَ أَثِمَ.
عِبَادَ اللهِ: وَحَتَّى نَحْفَظَ أَبْصَارَنَا عَنِ المُحَرَّمَاتِ؛ عَلَيْنَا أَلَّا نُعَرِّضَ أَنْفُسَنَا لَهَا؛ وَأَنْ نَجْتَنِبَ أَمَاكِنَ تَجَمُّعِ النِّسَاءِ، وَاخْتِلَاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ، وَفُضُولَ النَّظَرِ، وَإِطْلَاقَ البَصَرِ فِي صُوَرِ النِّسَاءِ فِي قَنَوَاتِ أوْ جَوَّالَاتٍ أوْ غَيْرِهَا؛ فَقَدِ اسْتَخَفَّ أُنَاسٌ بِذَلِكَ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ سُوءَ عَمَلِهِم، فَأَلِفُوا المَعْصِيَةَ لِكَثْرَةِ وُرُودِهَا؛ وَالحَقُّ أنَّ هَذَا لَيْسَ مُبَرِّرًا، بَلْ كُلَّمَا اشْتَدَّتِ الفِتْنَةُ وَتَيَسَّرَتْ سُبُلُ المَعْصِيَةِ؛ تَأَكَّدَ عَلَى المُسْلِمِ مُدَافَعَتُهَا، وَعَظُمَ الأَجْرُ فِي مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى تَرْكِهَا.
إِنَّ الأَمْرَ خَطِيرٌ، وَيَزْدَادُ خُطُورَةً فِي زَمَنٍ كَثُرَ فِيهِ تَبَرُّجُ النِّسَاءِ، وَخُرُوجُهُنَّ لِلأَسْوَاقِ مُتَزَيِّنَاتٍ مُتَعَطِّرَاتٍ، وَمَلَأتْ صُوَرُهُنَّ الفَضَائِيَّاتِ، وَالجَوَّالاتِ، يَشْتَدُّ الخَطَرُ عِنْدَمَا تَنَازَلَ رِجَالٌ عَنْ قَوَامَتِهِمْ، وَتَخَلَّوا عَنْ مَسْؤُولِيَّتِهِمْ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَنَا جَمِيعًا لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالأَعْمَالِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا هُوَ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنَّا سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلَّا هُوَ.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - عَلَى خَاتَمِ المُرْسَلِيْنَ وَالمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ؛ اللَّهُمَّ صَلِّ وسلم وبارك عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ. وأرض اللهم عن صحابة رسولك وتابعيهم.
اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوابُ الرَّحِيْمُ، وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيْمُ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا.
﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾
﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ظُلْمًا كَثِيْرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبِ إِلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لَنَا مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيْمُ﴾ .
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينَ.
اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.