أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول الحق -سبحانه وتعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج:11]، يعبد الله على حرف، أي على شك، أو على انحراف، أو على طرف الدين لا وسطه.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: " كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلاَمًا، وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ "، ضعيف الإيمان، لا يصمد أمام الابتلاء، بل إن مواقفه كلها مربوطة بشهواته؛ فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه.
وبعضهم يفتن في الأذى، نسأل الله السلامة والعافية، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) [العنكبوت:10].
أيها الإخوة: إن الرجال يُعْرَفون على الحقيقة عند الأزمة، فهنالك مَن يثبتون لمعتقداتهم وقيمهم وأخلاقهم، فلا يتنازلون عن شيء منها، لا يوالي أحدهم أو يعادي من أجل الدينار والدرهم، أو يطيع أي مخلوق في معصية الخالق، ولا يؤذي المسلمين الغافلين؛ تقرُباً لمدير، أو طمعاً في منصِب، ويضبط لسانه عند الغضب، فلا يسبق لسانه عقله.
معاشر الإخوة: لا أحد يزعم الكمال، ولا نصفه ولا حتى ربعه، ولا يكفي السعي والجد في محاولة الوصول إلى شيء من ذلك.
ولا شك أن الناس يكادون يجمعون على أن المجتمع في حاجة ماسة لا إلى كثرة الرجال فحسب؛ وإنما إلى رجال الثبات على المبادئ الشريفة، والأخلاق الفاضلة، فما الثناء على الكم والعدد إلا باصطحاب الكيف والنوع، أما العدد هكذا فلا.
في قصة طالوت وجنوده جاء القرآن بأسلوب الاستفهام (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) [البقرة:249]، هذه مقالة صفوة جنود طالوت لما سمعوا المُخَذِلِينَ يقولون: (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) فأدركوا الموقف بهذه المقالة وأنقذوه.
(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) مقالة نابعة من قلوب الذين يظنون أنهم ملاقو الله، (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ).
نابعة من قناعة صادقة، فالفئة القليلة الغالبة فيها من الصفات الشريفة من قوة القلب، ورباطة الجأش، وقبل ذلك الإيمان الراسخ بقوة الله تعالى، والتوكل عليه، والثبات على هذا المعتقد، وعدم الحيدة عنه.
صفات ليست عند الفئة الكثيرة، هذه الصفات هي التي حسمت الموقف لا الكثرة (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) [251].
وليس الثبات في القتال هو المقصود باستحضار هذه الأمثلة؛ كلا! وإنما المقصود هو الشخصية الثابتة الواثقة بشكل عام.
الشخصية التي لا تهزها رياح الفتن، ولا تضعفها أباطيل المرجفين، الشخصية التي تثبت على صفاء منهجها، الذي آمنت أنه الحق، ولم تبدل، كما في قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].
وقال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [سورة السجدة] وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ [سورة المؤمنون] وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [سورة الملك]
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد أثنى الله تعالى على عباده بالعديد من الصفات الجميلة، ومنها قوله تعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177].
هناك وفاء بالعهد فلا حيدة، وهناك صبر في البأساء والضراء وحين البأس فلا جزع، فهذه الصفات بلا شك من دلائل الصدق والتقوى، نحن بحاجة إلى القوي؛ لكن بشرط ألا يعطل قوته عند الحاجة، وألا تخور قواه عند الفتن، وبحاجة إلى الأمين الذي يستأمن على كل شيء، على الدين وعلى المال وعلى الكلمة وعلى أية مسؤولية؛ لكن قبل ذلك يكون ثابتا على أمانته، لا يخون ولا يغدر في السر.
وصفة أي صفة لا قيمة لها ما لم تكن صادقة، بحيث يكون الإنسان ثابتاً على مبدئه، يصبر عليه ويحتسب، ولا يتنازل عنه تحت ضغط واقع، ولا يبيعه بأي ثمن.
معاشر الإخوة: نريد أن نربي أنفسنا على صدق الموقف، وأن نثبت على قيم ديننا، وفضائل أخلاقنا مهما تغير الزمان، وأن نعي التيارات التي تحاول حرفنا عن منهج الستر والحياء، ومنهج القوة والعدالة الذي يرضاه ربنا جل في علاه، ومنهج نبينا الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق