أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وخافوه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾
فقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ووحدوه، اتقوا الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
وقوله: ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ يقول: ولينظر أحدكم ما قدّم ليوم القيامة من الأعمال، أمن الصالحات التي تنجيه أم من السيئات التي توبقه؟
وقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ يقول: وخافوا الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، إن الله ذو خبرة وعلم بأعمالكم خيرها وشرّها، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميعها.
عباد الله: إن الخوف من الله تعالى واجب على كل مؤمن ومؤمنة؛ كما قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.
ويُعرَّف الخوف: بأنه تألُّم القلب واحتراقُه بسبب توقُّع مكروهٍ في المستقبل، وهو الذي يكفُّ الجوارحَ عن المعاصي، ويُقيِّدها بالطاعات.
قال النبي ﷺ: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ [أي: سار من أول الليل]، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ». والمعنى: أنَّ مَنْ خاف اللهَ تعالى ألْزَمَه الخوفُ السلوكَ إلى الآخرة، والمبادرةَ بالأعمال الصالحة؛ خوفاً من القواطع والعوائق.
عباد الله: نعلم جميعاً أنَّ النبي ﷺ غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك كان أشدَّ الناس خشيةً لله تعالى، فعَنْ أَنَسٍ –رضي الله عنه– قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، فقَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ؛ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ». قَالَ أنسٌ رضي الله عنه: فغَطَّوْا رُءُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ. [الخنين: هو البكاء مع غُنَّة بانتشار الصوت من الأنف].
ومعنى الحديث: لو علمتم ما أعلمه من عظمة الله تعالى وانتقامه ممن يعصيه؛ لطال بكاؤكم وحُزنكم، وخوفكم مما ينتظركم، ولَمَا ضحكتم إلاَّ قليلاً.
والخوف من الله تعالى ليس قاصراً على الأنبياء والبشر؛ فقد قال الله تعالى في خوف الملائكة منه سبحانه: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾. وقال أيضاً: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَكَذَلِكَ جَعَلَ الْخَوْفَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ النَّافِعَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ الْعَمَلُ.
إخوة الإسلام: إن كثيرا من أوجه الخلل والتقصير في حياتنا ومظاهر المعصية لربنا نابعة من ضعف مقام الخوف والرهبة من الله -عز وجل-، فهل يتكاسل عن الصلاة ويتخلف عن أدائها عبد عمر قلبه بالخوف من الله؟ وهل يغلب لذة النوم والفراش على لذة الوقوف بين يد الله -عز وجل- في صلاة الفجر مع جماعات المسلمين إلا عبد خلا قلبه من الخوف والخشية التامة لمولاه -عز وجل-؟.
أولئك الذين يعقون والديهم، أولئك الذين يقطعون أرحامهم ويؤثرون مصالح دنياهم على بر والديهم وصلة أرحامهم، هل ذاقوا -بربكم- لذة الخوف من جلال الله وعظمته؟!.
أكَلة الربا والذين يظلمون الناس في أعراضهم وأموالهم وحقوقهم وأبدانهم، أتراهم استشعروا الخوف من ملك الملوك وجبار الأرض والسماوات؟!.
أتراهم يستشعرون مقام الخوف بين يدي الله -عز وجل- يوم (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، ويوم يرون (الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
عبَدة الشهوات العاكفون على اللهو والمجون ومشاهدة ما يبغضه الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- مما يعرض بالشاشات والقنوات، ومُدخلو القنوات الإباحية إلى منازلهم وغيرها لتؤثر في أبنائهم وأسرهم، ما مقدار الخوف من الله في قلوبهم وهم يقدمون على محارمه -سبحانه- وانتهاك حدوده؟!.
عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ قوله تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ فَقُلْتُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَزْنُونَ، وَيَسْرِقُونَ، فَقَالَ: (لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَيَخَافُونَ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ).
أيها الإخوة المسلمون: ما أشد حاجتنا إلى إحياء معاني الخوف من الله في نفوسنا؛ حتى تستقيم حياتنا، وتصح أوضاعنا!.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ).
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المسلمون؛ إن الذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصيته، فإذا أقدم على معصية بحكم ضعفه البشري أو وقعت منه كبوة أو هفوة قاده خوف مقام ربه، هذا المقام الرهيب الجليل، قاده إلى الندم، قاده إلى الاستغفار والتوبة، فظل في دائرة الطاعة والخشوع.
روى عطاء -رضي الله عنه- أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- ذكر ذات يوم وفكر في القيامة والموازين والجنة والنار وصفوف الملائكة وطي السماوات ونسف الجبال وتكوير الشمس واندثار النجوم، فقال -رضي الله عنه-: "وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ خَضِرًا مِنْ هَذِهِ الْخَضِرِ، تَأْتِي عَلَيَّ بَهِيمَةٌ فَتَأْكُلُنِي وأني لم أخلق؛ فَنَزَلَ قول الله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)".
إن عباد الله الخائفين من ربهم -عز وجل- الذين عبروا إلى ضفة النعيم والتكريم بعد أن كفوا أنفسهم عن الهوى، وضبطوها بالصبر على إيثار الخيرات، ولم يغتروا بزخارف الدنيا، لهم ما وعدهم ربهم بقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، وقوله -سبحانه-: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
إن الله -سبحانه وتعالى- ينفي عنهم أهوال القيامة وخوفها، لا خوف عليهم من الضلالة في الدنيا، ولا حزن من الشقاوة في الآخرة؛ لأنهم ساروا في دنياهم على الصراط المستقيم، فأخبرهم ربهم بالأمن والأمان في يوم الخوف الرهيب.
إن الخوف من الله -أيها الإخوة في الله- ليس هربا من الله -سبحانه وتعالى-، أو إعراضا عنه؛ بل هو إحساس بعظمته -سبحانه-، وهيبته، ورهبته، وجلاله؛ فيزداد العبد في الطاعة والاعتصام بحبل الله -تعالى-.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا بالبر والتقوى.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ ﷺ اللهم أرضى عن خلفائه الراشدين وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى أفضل أتباع المرسلين وعن بقية الصحابة أجمعين
اللهم أرضى عنا معهم وأصلح أحوالنا كما أصلحت أحوالهم يا رب العالمين.
وعليك اللهم بمن انتقص من عرض رسولك في شخصه أو زوجاته أو صحابته عليك اللهم بهم.
اللهم توفنا على ملته اللهم احشرنا في زمرته اللهم أدخلنا في شفاعته اللهم اسقنا من حوضه.
اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى
اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، وجنبنا الفواحش والآثام.
اللهم طهر قلوبنا وارزقنا المحبة والألفة والتعاون على البر والتقوى.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء.
اللهم من أراد بلادنا أو بلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه وأجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم أنصر الإسلام والمسلمين اللهم انصرهم في الشام والعراق واليمن وفي كل مكان.
اللهم ارحم اخواننا في مصر اللهم ارحم موتاهم واربط على قلوب ذويهم واجبر مصابهم وأصلح احوالهم.
اللهم احفظ اخواننا في السودان اللهم وحد صفوفهم وأصلح أمرهم واحفظ أمنهم.
اللهم احفظ المسلمين في باكستان وكشمير وبورما وفي كل مكان يارب العالمين.
اللهم انصر دينكَ، وكتابكَ، وسنةَ نبيِّك محمدٍ ﷺ، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
عباد الله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق