أَمَّا بَعْدُ: فـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ واحذروا من الشرك وأهله ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا﴾
عباد الله: إن الأصل الأعظم الذي لا تصح عبادة الله إلا به والجنة حرام على من تركه ونقضه، هذا الأصل هو إفراد الله بالعبادة وهو الأصل الذي أمر الله به عباده وبعث به الرسل جميعا قال تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وقال تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وقال تعالى ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾
فالرُسل كلهم بُعثوا بكلمة التوحيد لا إله إلا الله، ومعناها لا معبود بحق إلا الله، فكل ماعُبد من دونه فهو معبود بالباطل، من عبد غير الله فهو مشرك كافر والجنة عليه حرام، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾
والشرك أعظم الذنوب، ومحبط لكل الأعمال، وسبب للخسارة والهوان، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
وهذه أمثلة على بعض العبادات التي جعلت لغير الله في كثير من بلدان المسلمين: فمنها الدعاء والاستغاثة بغير الله فيما لايقدر عليه إلا الله.
وقد نهى الله عباده عن دعاء غيره معه فقال تعالى ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ وبين لهم أنه وحده بيده دفع الضر وكشفه، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، قال تعالى: ﴿وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾
فبين سبحانه أن المدعو من دون الله، من أصنام أو جن أو ملائكة أو أنبياء أو أولياء أو صالحين، لا يسمعون دعاء من دعاهم: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ﴾ لأنهم مخلوقين ضعفاء ليس بيدهم نفع أو ضر، ولا يملكون من قطمير، وهو اللفافة التي على نواة التمر، فهم لا يملكون ما يطلب منهم ولا يسمعون دعاء من دعاهم: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ﴾ ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾ فلو فُرض أنهم سمعوا لم يستجيبوا لعجزهم، ثم قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ فسمى دعاءهم إياهم شركاً، فلله ما أعظمها من آية كافية شافية في إبطال حُجج المشركين.
ومن أنواع العبادة الشرك: اتباع من يحلل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله.
لما سمع عدي بن حاتم رضي الله عنه رسول الله ﷺ يتلو قوله تعالى ﴿اتَّخَذُوا أَحبَارَهُم وَرُهبَانَهُم أَربَاباً مِن دُونِ اللَّهِ﴾ فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، قال ﷺ: (أَجَلْ، وَلَكِنْ يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللهُ، فَيَسْتَحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللهُ، فَيُحَرِّمُونَهُ، فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ) قال الله تعالى عنهم: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾
ومن مظاهر الكفر التي استهان بها الناس: السحر والكهانة والعرافة، قال-تبارك وتعالى-: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحرَ﴾ وكسب الساحر حرام، وحكم الساحر القتل، ويشارك الساحر في الإثم الذين يذهبون إليه ليعمل لهم سحرا، ويحرم فك السحر بالسحر؛ لأنه من عمل الشيطان بل من الشرك الأكبر، فالواجب الحذر من ذلك، كما لا يجوز علاجه بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين واستعمال ما يقولون ؛ لأنهم لا يؤمنون ولأنهم كذبة فجرة يدعون علم الغيب ويلبسون على الناس، وقد حذر الرسول ﷺ من إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم حتى لو كان من باب التسلية أو التجربة دون أن يصدقهم، فلا تقبل له الصلاة أربعين ليلة، أي أنه لا يؤجر على صلاته أربعين ليلة، مع وجوب أدائه لهذه الصلوات لتسقط عنه الفريضة بأدائها، ولكنه لا يؤجر عليها، قال ﷺ (مَنْ أتى عَرَّافًا فَسَأَلهُ عَنْ شَئٍ لم تقْبَل لَهُ صَلاةُ أربعينَ ليلةً) هذا إذا سأله فقط، أما إذا صدق ما يقوله فقد كفر، قال ﷺ:(مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) فالسحرة كفرة لا يجوز إتيانهم ولا سؤالهم ولا تصديقهم.
ومن أعمال السحرة صب الرصاص على رأس المريض فهذا من عمل السحر والعياذ بالله.
فاتقوا الله واعلموا أن الله هو النافع والضار، وهو يُمرِض ويَشفي، ويُحيي ويميت، ويغفر الخطايا يوم الدين. ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله تعالى كما أمركم بذلك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾
عباد الله: اعلموا أنه لا يجوز للمسلم أن يُعلِّق شفاءه من الأمراض، أو حمايته من العين والحسد بما يُسمَّى التمائم، وهي: ما يُعلَّق في الأعناق، أو العضد، أو تحت الوسائد، أو في الصناديق، وتسمى تعويذة وحظّاظَة وكل ذلك حرام، وشرك بالله.
فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- مرفوعاً: "من تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فلا أَتَمَّ الله له، ومن تَعَلَّقَ وَدَعَةً فلا وَدَعَ الله له" فلا وَدَعَ الله له: أي لا جعله في دعة وسكون، أو لا خفَّف الله عنه ما يخافه، وهو دعاء عليه.
وفي رواية: "من تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فقد أَشْرَكَ".
دل الحديث على أن من استعمل التمائم يعتقد فيها دفع الضرر فإنه داخل في دعاء النبي ﷺ عليه بأن يعكس الله قصده ولا يتم له أموره، كما أنه ﷺ يدعو على من استعمل الودع لنفس القصد السابق أن لا يتركه الله في راحة واطمئنان، بل يحرك عليه كل مؤذٍ.
ومِثل ذلك ما يُعلَّق بالسيارات مخافةَ العين، أو جلب الرزق، أو ما يُتَّخذ من الرقى، وهي: العزائم المخالفة للطريق المشروع، والتي تكتب بحروف مقطَّعة أو بغير العربية.
فهذه التمائم التي تعلق على السيارات، حيث توضع خرقة في مقدمة السيارة أو مؤخرتها يعتقد أنها تدفع الحسد وتمنع الحوادث فإن هذا من جنس عمل أهل الجاهلية، حيث كانوا يقلدون البهائم خوفاً عليها من العين، وقد أمر رسول الله ﷺ بقطعها، فعن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره فأرسل رسولاً: (ألَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلَادَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ)، وقال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنْ عَلَّقَ فَقَدْ أَشْرَكَ)، ورسول الله ﷺ يقول: (إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ، وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ) والتولة شيء تصنعه بعض النساء لأزواجهن لتزداد محبته لها.
وكذلك لايجوز وضع المصحف أو آيات في السيارة أو البيت خشية العين أو بنية دفع العين، هذا بدعة لا أصل له، ومن جنس التميمة والحروز ولا يجوز.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا،
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ وولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ ﷺ، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم انصر جُنُودَنَا واحفظ حُدُودَنا والمُسلمينَ أجمَعينَ.
اللهم اجعلنا من أهل التوحيد والسنة واجعلنا ممن دعا إلى ذلك وتوفيته عليه.
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق