الخميس، 17 يناير 2019

خطبة: وقفات مع سورة الْحُجُرَات.

أما بعد فـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ .
أيها المؤمنون: ما أجملَ أن نعيشَ أفضلَ اللحظاتٍ في رِحابِ آياتٍ بيِّنات، نستلهِمُ النفحَات والعِظات، ونجنِي أطايِبَ الثمرات، من سُورة الآداب والأخلاق “سورة الْحُجُرَات”، فسورة الْحُجُرَاتِ مدرسة متكامِلة جاءت تربّى الفرد والمجتمع بل الأمة جميعًا على سموّ الأخلاق وفضائل الأعمال وعلوّ الهمم.
لقد خاطب الله – عز وجل – المؤمنين في هذه السورة خمس مرات بقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾، وفي كل نداء من هذه النداءات توجيه إلى مكارم الأخلاق التي ينبغي التحلي بها، ثم خاطب في المرة السادسة عموم الخلق بقوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ ليرشدهم إلى طريقة تحفظ أمن الجميع وسلامتهم وتعاونهم على البر والتقوى.
فكان النداء الأول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
يأمر الله تعالى المؤمن بعدم تقديم رأيه على أوامر الله واوامر رسوله ﷺ ألا يقدم رأيه على الكتاب والسنة، بل يكون رأيه تبعاً لما جاء به النبي ﷺ، وتكون محبته وولاؤه لله ورسوله أقوى وأشد من محبته وولائه لنفسه وأهوائه ومصالحه.
النداء الثاني في هذه السورة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ ففهي هذه الآية يعلمنا ربنا كيف نتأدب مع رسولنا ﷺ وقد أجمعَ أهلُ العلم على أن الأدبَ مع النبي ﷺ حالَ موته كالأدب معه في حياته.
والنداء الثالث في هذه السورة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
ففي هذه الآية يأمرنا الله عز وجل بالتثبت والتبين، وعدم التحدُث بكل ما يسمع حتى يتأكد من صحته، وليس هذا فحسب؛ فمن الواجب على المسلم ألاّ يُخبر بالخبر إلاّ إذا كان فيه نفعٌ وفائدة، إما إذا كان الخبر صحيحاً وليس فيه نفعٌ ولا فائدة فإن الأولى والأحسن والأجدر أن يسكت عنه ولا يُحدث به.
والنداء الرابع في سورة الْحُجُرَاتِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
في هذه الآية يعلمنا كيف نتعامل مع إخواننا المؤمنين في حال حضورهم والتعامل المباشر معهم.
وحذرنا من السخرية وسواء كانت السخرية واللمز والنبز بين الأفراد أو بين الأقوام والجماعات ؛ فإن ذلك محرم يجب الإقلاع عنه ، والمؤمن أحق من يلتزم بذلك ؛ لأنه داعية إلى الإسلام وقدوة فيه ، لاسيما إذا ارتكب هذا الإثم في حق المؤمنين ؛ لأنه بذلك يكون قد نبز نفسه وحقرها وسخر منها ، فالمؤمنون جسد واحد.
عباد الله والنداء الخامس في سورة الْحُجُرَاتِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾، في هذه الآية يعلمنا كيف نتعامل مع اخواننا المؤمنين في حال غيبتهم وعدم حضورهم.
وقد أخرج البخاري ومسلم قوله ﷺ: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) . رواه البخاري.
والغيبة ثلاثة أوجه في كتاب الله – تعالى -: الغيبة، والإفك، والبهتان. الغيبة أن تقول ما في أخيك، والإفك أن تقول فيه ما بلغك عنه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه.
فالغيبة جيفة يرعى عليها اللئام، والذي يتكلم في الناس وهم غياب كالذي يأكل لحوم الأموات: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾.
فاللهم طهر ألسنتنا من الغيبة والنميمة ومن كل فحش وسوء، وطهر مجالسنا من كل رذيلة ونقيصة وشر، يا رب العالمين.
الخطبة الثانية
أما بعد فاتقوا الله وأعلموا أن ميزان التفاضل بين البشر هو تقوى الله سبحانه وتعالى.
وتقوى الله سبحانه، بفعل أوامر الله جل وعلا رغبة في ثوابه وترك المحرمات خوفاً من عقابه.
كما قال الله تعالى في النداء السادس في سورة الْحُجُرَاتِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ قال ابن كثير: (فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية)
وقد استشرف الصحابة إلى معرفة أكرم الناس بالميزان الدنيوي، فوزن لهم رسول الله ﷺ بالميزان الأخروي الذي يعطي الحقائق على وجهها ويزن الرجال بأعماله.
فعن - أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئِل رسولُ اللهِ ﷺ أيُّ الناسِ أكرَمُ؟ قال: (أكرَمُهم عِندَ اللهِ أتقاهم). قالوا: ليس عن هذا نَسأَلُك، قال: (فأَكرَمُ الناسِ يوسُفُ نبيُّ اللهِ، ابنُ نبيِّ اللهِ، ابنِ نبيِّ اللهِ، ابنِ خليلِ اللهِ). قالوا: ليس عن هذا نَسأَلُك، قال: (فعن مَعادِنِ العربِ تَسأَلونَني). قالوا: نعمْ، قال: (فخِيارُكم في الجاهليةِ خِيارُكم في الإسلامِ، إذا فَقُهوا). رواه البخاري
هذا الربط بين الخيرية وبين التقوى هو الميزان الذي يجب علينا كمسلمين أن نزن به الناس على ظواهرهم ونحسبهم والله حسيبهم، فمن ابتغى غيره فقد خاض في عفن الجاهلية ولم يرد إلا الحياة الدنيا.
واعلموا أن سب الناس أمر ليس بالهين لكنه عندما يكون عن سخرية واحتقار وتنقص فإن أمره أعظم لما يدل عليه من خبث السريرة وقلة الحياء من الله ومن الناس.
وأعلم أخي الكريم أن: من سبك واحتقرك ونال من عرضك فقد وصل به الجرم ما يوصفه حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرِّبا اثَنانِ و سبعونَ بابًا، أَدْناها مثلُ إِتْيانِ الرجلِ أُمَّهُ، و إِنَّ أَرْبَى الرِّبا اسْتِطَالَةُ الرجلِ في عِرْضِ أَخِيهِ) صححه الألباني.
فإن كان الربى عظيم فإن هناك ما هو أشنع منه أن تقتطع من لحم أخيك طعام تستسيغه لكبر وتطاول في نفسك.
وختام الآية منهج رباني وسنة ماضية والله: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي: عليم بكم، خبير بأموركم، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، ويفضل من يشاء على من يشاء، وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كله، والمعنى.
الناس ينظرون بمنظار المصلحة والوجاهة والعطاء المشبوه من الأموال، والله ينظر إلى الناس بمنظار الحق والعدل والإنصاف.
ولستم أنتم من تعطون الناس مقاماتهم عند الله، بل يختار وينزل من رحمته على من يشاء من عباده.
والله كما قسم الأرزاق قسم المناصب والكرامات والرحمات، وليس لنا والحال هذه إلا أن نسأل الله بعمل صالح أن يختارنا بفضله وكرمه وإن يتولانا فيمن تولى.
اللهم إنا نعوذ بك من مظلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم إنا نعوذ بك من الكبر والعجب احتقار البشر. اللهم نقي قلوبنا من النفاق وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الكفر والكافرين، اللهم أظهر دينَكَ وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم الهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا وادخلنا برحمتك في الصالحين يا رب العالمين.
عبادالله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ




بتصرف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق