الخميس، 24 يناير 2019

خطبة ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ

أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيْكُمْ مَعْشَرَ الإِخْوَةِ الكِرَامِ بِتَقْوَى الله عز وجل فَالتَّقْوَى خَيْرُ الأَعْمَالِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
قال السعدي: هذه الآية بيان لما يستحقه الله تعالى من التقوى، وهي أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات، فإن من عاش على شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه وطاعته، منيبا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته ورزقه حسن الخاتمة.
عباد الله: الحقيقة الثابتة التي أجمع عليها البشر والموقف الرهيب الذي يواجه كل حيِّ، المؤمن والكافر، البر والفاجر، يذكره الله تعالى في كتابه، ويؤكد على ضرورة التنبه لما بعده من الحساب والجزاء فيقول سبحانه:﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ نعم، كل نفوس الخلائق ستذوق الموت، وهو كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى، وعمَّر سنين، لكننا نسهو ونلهو عن ذكره وتذكره، مع أن رَسُولَنا ﷺ أمرنا بالإكثار من ذكره، فَقَالَ ﷺ (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ) يَعْنِي الْمَوْتَ وهَاذِمِ اللَّذَّاتِ أي قاطعها.
وقال ﷺ (أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يُمَحِّصُ الذُّنُوبَ وَيُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا).
فالموت لابد منه، ولا مفر منه، يصل إلينا في بطون الأودية، وعلى رؤوس الجبال، فوق الهواء، وتحت الماء، فلا ينجو منه ملائكة السماء، ولا ملوك الأرض، ولا أحد من إنس أو جن أو حيوان، ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَة
وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
أيها الإخوة: كم من الناس لا يعير للرحلة الكبرى اهتمامه، بل كم منهم من نسيها وكأنها لن تأتيه، مع إنه ما تذكر أحد تلك الساعة الرهيبة وخاف من عاقبتها إلا نجا عندما تذكرها فعمل لها، وما لَهَا عنها أحدٌ إلا تحسر وندم حين قرب أجله، ودنا فراقه، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
إذاً لا بد من الموت لأنه إظهارٌ لقدرة الله، وبرهانٌ على البعث، ودليلٌ على الوقوفِ أمام رب العالمين، لابد من الموت ليتعظَ الناس، وتستقرَ أحوالهم، فهو أقوى عظةً وأفظعُ خطباً وأشنعُ أمراً وأمر كأساً.
فنسيان الموت ضلال مبين، وبلاء عظيم، ما نسيه أحد إلا طغى، وما غفل عنه امرؤٌ إلا غوى، ولا يمكن علاج ذلك ولا التخلص منه إلا أن يتذكر الإنسان قول الله، ﴿وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ
فلا تنسوا الموت او تتناسوه فإنه إذا وصل لن يرده أحد ولا يهرب منه احد ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ وقال سبحانه ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
فأعدوا للأمر الشديد عدته، وتأهبوا للرحيل، واعملوا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل:
تَزَوَّدْ من التقوى فإنك لا تدري ● إذا جَنَّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجرِ
فكم من فَتًى أمسى وأصبح ضاحكا ● وقد نُسِجَْت أكفانُه وهو لا يدرِي
وكم من صغارٍ يُرْتَجَى طولُ عمرهم ● وقد أُدخلت أجسامُهم ظلمةَ القبرِ
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها ● وقد قُبضت أرواحُهم ليلةَ القدرِ
وكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ ● وكم من عليلٍ عاش حيناً من الدهرِ
وكم من صبيٍ يرتجى طولُ عمره ● وقد نسجتْ أكفانُه وهو لا يدري
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها ● وقد قُبضت روحُها ليلةَ القدرِ
وكم من ساكنٍ عند الصباحِ بقصرِهِ ● وعند المساء قد كان من ساكنِ القبرِ
فكن مخلصاً واعمل الخيرَ دائماً ● لعلك تحظى بالمثوبةِ والأجرِ
وداوم على تقوى الإله فإنها ● أمانٌ من الأهوالِ في موقفِ الحشرِ
اللهم تجاوز عن زلاتنا، واغفر خطيئاتنا، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، ولا تغتروا بدنياكم، وتزودوا لما أمامكم ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ
يا عبد الله: إن منزلك الحقيقي في حفرةٍ من الأرض، قريبةٍ أنحاؤها، مظلمةٍ أرجاؤها.
قال زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في ليس الغريب:
وَأَنْزَلوني إلى قَبري على مَهَلٍ ● وَقَدَّمُوا واحِداً مِنهم يُلَحِّدُني
وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني ● وَأَسْبَلَ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني
فَقامَ مُحتَرِماً بِالعَزْمِ مُشْتَمِلا ً● وَصَفَّفَ اللَّبْنَ مِنْ فَوْقِي وفارَقَني
وقَالَ هُلُّوا عليه التُّرْبَ واغْتَنِموا ● حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ
وأودعوني ولجوا في سؤالهموا ● مالي سواك إلهي من يخلصني
في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هناك ولا ● أَبٌ شَفيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُني
عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي جِنَازَةٍ فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ ﷺ: (يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا).
فيا أيها الحي الآن، اعلم أن الحزن عليك سيكون على ثلاثة أنواع: الناس الذين يعرفونك سطحياً سيقولون الله يرحمه ربما ككلمة عابرة، صدقاؤك سيحزنون ساعات أو أياماً ثم يعودون إلى حديثهم بل وضحكهم، الحزن العميق في البيت سيحزن أهلك أسبوعا أو أسبوعين، شهراً أو شهرين أو حتى سنة وبعدها سيضعونك في أرشيف الذكريات.!
انتهت قصتك بين الناس أما قصتك الحقيقية فقد بدأت من حين خروج روحك إلى بارئها فالقبر أول منازل الآخرة فَقَد كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ» قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ»
هذه حقيقة تحتاج الى تأمل، ووقفة مع النفس نؤكد فيها عليها على الحرص على أداء الفرائض، والإكثار من النوافل، والاهتمام بصدقة السر وعدم تركها ومما يحسن بالمسلم أن يخصص لها مبلغاً كل شهر، ذلك أن عدم تخصيص مبلغٍ كلَ شهر ينسي المسلم الصدقة ويصعبها عليه لفقد المال أو البخل به، قال الله تعالى حاثاً على النفقة في سبيله ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال العلماء: ما ذكر الميت الصدقة إلا لعظيم ما رأى من أثرها بعد موته.
نسأل الله أن يرحمنا برحمته؛ وأن يغفر ذنوبنا، ويستر عيوبنا
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم اجعلنا ممن يفرح بلقاءك وينعم بعطائك، وممن يصحب في الدارين أولياءك يارب العالمين.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ.
اللهم اجعلنا ممن يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابق عذاب.
اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها وخير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا ولِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أرادنا وبلادنا بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
عبادالله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وآخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق