الجمعة، 4 مايو 2018

خطبة: ثبات النبي صلى الله عليه وسلم

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَقَامَ حُجَّتَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَقَطَعَ مَعَاذِيرَ الْمُعْتَذِرِينَ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ؛ فَهُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ، الْحَلِيمُ الْعَلِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ دَلَّتْ دَلَائِلُ الْخَلْقِ وَالشَّرْعِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَبَرْهَنَتْ أَفْعَالُهُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ هَادِيًا وَمُعَلِّمًا، وَبَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاثْبُتُوا عَلَى دِينِكُمْ فَإِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلَا سَعَادَةَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا بِهِ، وَلَا نَجَاةَ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا بِالْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، فَاللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى دِينِ الْحَقِّ إِلَى الْمَمَاتِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي سِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ ثَبَاتٌ عَلَى الْحَقِّ عَجِيبٌ، وَإِصْرَارٌ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَمِنْ سِيرَتِهِ يَتَعَلَّمُ الْمُؤْمِنُونَ الثَّبَاتَ؛ فَهُوَ ﷺ إِمَامُ الثَّابِتِينَ عَلَى الْحَقِّ، وَلَهُمْ فِي ثَبَاتِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ. آذَاهُ الْمُشْرِكُونَ وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ فَلَمْ يَتَرَاجَعْ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَسَاوَمُوهُ فَلَمْ يَتَنَازَلْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، وَأَغْرَوْهُ بِمَا يُغْرَى بِهِ الْأَكَابِرُ مِنَ النَّاسِ فَمَا تَزَحْزَحَ عَنْ مَوْقِفِهِ، وَكَانَ ثَابِتًا ثُبُوتَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي، بَلْ لَوْ تَزَحَزْحَتِ الْجِبَالُ عَنْ مَقَارِّهَا لَمَا تَزَحْزَحَ أَبُو الْقَاسِمِ ﷺ عَنْ دَعْوَتِهِ.
وَلَجَأَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ لِيُسْكِتَهُ لِمَا لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَضْلِ، فَقَدْ رَبَّاهُ مَعَ أَوْلَادِهِ، قَالَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: «جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يُؤْذِينَا فِي نَادِينَا وَفِي مَسْجِدِنَا، فَانْهَهُ عَنْ أَذَانَا، فَقَالَ: يَا عَقِيلُ: ائْتِنِي بِمُحَمَّدٍ، فَذَهَبْتُ فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ بَنِي عَمِّكَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ وَفِي مَسْجِدِهِمْ، فَانْتَهِ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَسْتَشْعِلُوا لِي مِنْهَا شُعْلَةً. قَالَ: فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: مَا كَذَبَنَا ابْنُ أَخِي، فَارْجِعُوا» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى.
وَذَاتَ مَرَّةٍ طَمِعَ أَحَدُ كُبَرَائِهِمْ فِي أَنْ يَلِينَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ تَصَلُّبِهِ، وَيَحْرِفَهُ عَنْ مَوْقِفِهِ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ؛ فَهَذَا دِينُ اللَّهِ تَعَالَى يَحْمِلُهُ رَسُولُهُ ﷺ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ قُرَيْشًا اجْتَمَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ لَهُمْ: دَعُونِي حَتَّى أَقُومَ إِلَيْهِ أُكَلِّمَهُ فِإِنِّي عَسَى أَنْ أَكُونَ أَرْفَقَ بِهِ مِنْكُمْ. فَقَامَ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أَرَاكَ أَوْسَطَنَا بَيْتًا، وَأَفْضَلَنَا مَكَانًا، وَقَدْ أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ مَا لَمْ يُدْخِلْ رَجُلٌ عَلَى قَوْمِهِ مِثْلَهُ، فِإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَالًا فَذَلِكَ لَكَ عَلَى قَوْمِكَ أَنْ يُجْمَعَ لَكَ حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ شَرَفًا فَنَحْنُ نُشَرِّفُكَ حَتَّى لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِكَ أَشْرَفَ مِنْكَ، وَلَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا عَنْ مُلِمٍّ يُصِيبُكَ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى النُّزُوعِ مِنْهُ بَذَلْنَا لَكَ خَزَائِنَنَا حَتَّى نُعْذَرَ فِي طَلَبِ الطِّبِّ لِذَلِكَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (حم ۞ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۞ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ۞ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ۞ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ۞ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ۞ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) سورة فُصِّلَتْ. فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَهَا عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا وَأَلْقَى بِيَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا يَسْمَعُ مِنْهُ، حَتَّى وصلَ النَّبِيُّ ﷺ، إِلَى السَّجْدَةِ فَسَجَدَ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ فَأَنْتَ وَذَاكَ، ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ مَا يَدْرِي مَا يَرْجِعُ بِهِ إِلَى نَادِي قَوْمِهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ مُقْبِلًا قَالُوا: لَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُمْ بِوَجْهٍ غَيْرِ مَا قَامَ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ كَلَّمْتُهُ بِالَّذِي أَمَرْتُمُونِي بِهِ، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ كَلَّمَنِي بِكَلَامٍ لَا وَاللَّهِ مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ مِثْلَهُ قَطُّ، وَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ لَهُ. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ فَأَطِيعُونِي الْيَوْمَ وَاعْصُونِي فِيمَا بَعْدَهُ، وَاتْرُكُوا الرَّجُلَ وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ بِتَارِكٍ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ؛ فَإِنْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ يَكُنْ شَرَفُهُ شَرَفَكُمْ، وَعِزُّهُ عِزَّكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْهِ تَكُونُوا قَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ» رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ.
فَلَمَّا يَئِسُوا مِنْ تَوَقُّفِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ دَعْوَتِهِ قَدَّمُوا عَرْضًا آخَرَ لِمُسَاوَمَتِهِ فِي دِينِهِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّهُ عَرْضٌ جَيِّدٌ فِي حَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَفَضَهُ؛ فَاجْتَمَعَ جَمْعٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: «يَا مُحَمَّدُ، هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدُ مَا نَعْبُدُ، فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا نَعْبُدُ كُنَّا قَدْ أَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا تَعْبُدُ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ۞ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۞ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۞ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ۞ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۞ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.
وَبَلَغَ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ صَارَ يُهَدِّدُهُمْ وَهُوَ وَحْدَهُ، لَا يَخْشَى مِنْهُمْ؛ حَتَّى هَابُوهُ وَخَافُوا مِنْهُ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ، سَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، أَوْ كَمَا قَالُوا: قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَقْبَلَ يَمْشِي، حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ مَا يَقُولُ، قَالَ: فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ، غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى، ثُمَّ مَرَّ بِهِمُ الثَّالِثَةَ، فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَقَالَ: «تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ»، فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ، حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، انْصَرِفْ رَاشِدًا، فَوَاللهِ مَا كُنْتَ جَهُولًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَفِي عَزْمِهِ وَإِصْرَارِهِ ﷺ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ مَهْمَا كَلَّفَ الْأَمْرُ قَالَ لَهُمْ حِينَ رَدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ وَقَدْ جَاءَ مُعْتَمِرًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي -يَعْنِي: رَقَبَتَهُ- وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَصَلَوَاتُ رَبِّنَا وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَا دَامَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.
نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين الثبات على دينه ، والعصمة من الفتن ، ما ظهر منها وما بطن .
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفَى، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَمَنِ اقْتَفَى.
أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). ثُمَّ اعْلَمُوا -رَعَاكُمُ اللهُ- أَنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى هُوَ حَقِيقَةُ الإِسْلاَمِ؛ فَإِنَّ الإِسْلاَمَ فِي حَقِيقَتِهِ إِيمَانٌ باللهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ اسْتِقَامَةٌ وَثَبَاتٌ عَلَيهِ حَتَّى المَمَاتِ. (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ۞ نَحْنُ أَولِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ۞ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)
الثَّبَاتُ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ الإِيمَانِ، وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَقُوَّةِ النَّفْسِ، وَرَبَاطَةِ الجَأْشِ، وَالتَّأَسِّي بِأَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ عَلَيهِمِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، الذِينَ ضَرَبُوا أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ وَأَصْدَقَهَا فِي الثَّبَاتِ عَلَى الدِينِ، وَتَبْلِيغِ رِسَالاَتِ اللهِ تَعَالَى، رُغْمَ مَا نَالَهُم مِنَ الأَذَى، وَمَا لَحِقَهُم مِنَ العَذَابِ وَالضَّرَرِ، مِمَّا سَطَّرَهُ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى قُرْآنًا يُتْلَى إِلَى يَومِ القِيَامَةِ فِي صَبْرِ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَثَبَاتِهِم عَلَى دِينِ اللهِ وَتَبْلِيغِ رِسَالاَتِهِ.
وَإِنَّ عَلَى المُسْلِمِ الصَّادِقِ فِي إِيمَانِهِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى الثَّبَاتِ خاصةً فِي هِذَا العَصْرِ؛ عَصْرِ التَّحَدِّيَاتِ وَالفِتَنِ وَالمُغْرِيَاتِ، عصر سهولة الوصول للحرام، عصر الرويبضات وتصدر الجهال على الشاشات، عصر الفتاوى الضالة والمضلة ممن يحل الحرام ويحرم الحلال فأحلوا المعازف والتبرج والاختلاط وأبطلوا فضل صلاة الجمعة والجماعة، عصر الإستدلال بآياتِ القرآن في غير موضعها!
وَلْنَتَعَلَّمْ -عَبَادَ اللهِ- مِنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الثَّبَاتَ عَلَى الحَقِّ، وَالدَّعْوَةَ إِلَيهِ، وَالصَّبْرَ عَلَى الأَذَى فِيهِ؛ فَإِنَّ عَاقَبَةَ ذَلِكَ نَصْرٌ فِي الدُّنْيَا، وَفَوزٌ أَكْبَرُ فِي الآخِرَةِ.
فالمسلم لايستستلم للمغريات ولا تنازل أمام التحديات، فالعجب لمسلم يصلي ويصوم ويتعامل بالربا بحجة الكسب والاستثمار والعجب لمسلم يتعامل بالرشوة بحجة تسهيل المعاملات والعجب لمسلم يتعامل بالغش بحجة التجارة فيغش الناس في بضاعته ويغش نفسه في امتحاناته ويسهل الغش لغيرة بحجة المساندة والمساعدة.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ كما أمرَكم بذلك ربُّكم ربُّ العالمينَ فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّد، اللَّهُمَ ارْزُقْنَا مَحَبَّتَهُ وَاتِّبَاعَهُ ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً، اللَّهُمَّ احْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ وَأَدْخِلْنَا فِي شَفَاعَتِهِ وَأَسْقِنَا مِنْ حَوْضِهِ واجْمَعْنَا بِهِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَوَالِدِينَا وَأَهَالِينَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ!
اللهم يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلوبَنا على دِينِكِ، وصِرَاطِكَ المُستَقِيم. اللهم أرنا الحقَّ حقاً وارزقنا إتباعه والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ياربَّ العالمين. اللهم إنَّا نعوذُ بك من الفتنِ ما ظهر منها وما بطن ياربَّ العلمين.
اللهم أبرم لهذه الأمةِ أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطَّاعةِ ويُذلُّ فيه أهلُ المعصيةِ ويؤمرُ فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر ياربَّ العالمين. اللهم أدم علينا نعمة الأمن والإيمان ووفقنا لما تحبُّ وترضى يا رحمان.
اللهم وفِّق ولاةَ أمورِنَا لِمَا تُحِبُّ وترضى وأعنهم على البرِّ والتقوى, وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة ياربَّ العالمين.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين والمضطهدين في كلِّ مكانٍ ياربَّ العالمين
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله أذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾..




بتصرف من خطب الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق