أما بعدُ: أَمَّا بَعدُ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عز وجل، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي القُرءَانِ الكَريمِ: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أولئِكَ كَانَ عنهُ مَسئُولاً﴾
أيها الإخوة: لقد فضل الله عز وجل بعض السور، كما فضل بعض الآيات، وإن أعظم آية في القرآن، هي آية الكرسي، فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ " قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ " قُلْتُ : اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، قَالَ : فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ : لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ".
هنأه النبي ﷺ على هذا العلم الذي حواه صدره، فهو أقرأ الأمة بكتاب الله، ولم تكن قراءته دون علم، بل لقد علم أعظم آية، لما فيها من صفات لله عز وجل ولما تحويه من أسماء الله، فهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة، وقد اشتملت على جميع أقسام التوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
قال النووي في شرح مسلم : قال العلماء: إنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والملك والقدرة والإرادة، وهذه السبعة أصول الأسماء والصفات. اهـ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾.
فقوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) إخبار بأنه المنفرد بالألوهية لجميع الخلائق، فلا معبود بحق إلا هو سبحانه، وهو المستحق للعبادة ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره ولا قوام للموجودات بدون أمره، وقد وردت أحاديث تبين أن اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب في هذه الآية آية الكرسي ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾.
﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ يعني: لا تصيبه ولا تعتريه سنة وهي النعاس وهي النوم الخفيف، ولا نوم وهو النوم الثقيل، فلا يعتريه غفلة ولا نعاس ولا نوم ولا موت، بل حياته كاملةﷻ. قال ﷺ: (إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ…إلخ). مسلم.
ثم قال تعالى ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه.
ثم قال سبحانه ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ كقوله تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ وكقوله تعالى ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ وهذا من عظمته وكبريائه وجلاله عز وجل وأنه لا أحد يستطيع يشفع إلا بإذنه سبحانه، يعني: يوم القيامة لا يتقدم أحد يشفع حتى النبي محمد ﷺ إلا بإذنه تعالى، حتى يأذن له، وما ذاك إلا لعظم مقامه وجبروته وكونه سبحانه المستحق لأن يعظم ويجل وأن لا يتقدم بين يديه إلا بإذنه كما جاء في حديث الشفاعة عن النبي ﷺ الذي قال فيه: (فَأَنْطَلِقُ حَتَّى آتِيَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ مِنْ قَبْلِي ثُمَّ يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ) فالشفاعة لا تكون لمن رضي الله قوله وعمله، وهم أهل التوحيد والإيمان، هم الذين يشفع فيهم الأنبياء، أما أهل الشرك فلا شفاعة لهم، كما قال تعالى: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾.
ثم قال سبحانه ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ هذا دليل على إحاطة علم الله بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كما قال تعالى إخباراً من الملائكة، فهو العالم بأحوال عباده لا يخفى عليه خافية جل وعلا، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ما مضى وما يأتي، ويعلم أحوال عباده الماضين والآخرين، ويعلم كل شيء: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
ثم قال سبحانه ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل كما قال سبحانه: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾
فلا أحد يعلم الغيب إلا الله، كما قال الله : ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾، وقال تعالى لنبيه ﷺ في سورة الأعراف: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) والرسل إنما يعلمون ما جاءهم به الوحي، فما أوحى الله به إليهم يعلمونه، كما قال : ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾.
ثم قال سبحانه ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل النبي ﷺ عن قول الله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ فقال: (الكُرْسِيُّ موضعُ القدمينِ، والعرشُ لا يقدرُ أحدٌ قدْرَه) وقال ﷺ (ما السَّماوات السَّبع في الكرسيِّ إلا كحلقةٍ مُلقاةٍ بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسيِّ كفضل تلك الفلاةِ على تلك الحلقة) وسميت بآية الكرسي لذكر الكرسي فيها.
ثم قال سبحانه ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ أي لا يثقله ولا يتعبه حفظ السموات والأرض سبحانه وتعالى، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو قائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة إليه وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم، لا إله إلا هو ولا إله غيره ولا رب سواه.
ثم قال سبحانه ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ فهو العلي علو منزلة وعلو قهر وسلطان، وهو العظيم سبحانه وتعالى الكبير المتعال لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. أ.هـ.
الخطبة الثانية
أما بعد: أما بعد عباد الله فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي العظيم القائل في محكم كتابه: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾
عباد الله: لآية الكرسي أوقات يستحب أن تقرأ فيها منها أدبار الصلوات الخمس؛ قال ﷺ: (مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ).
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: " يستحب بعد الصلاة ، بعد التسبيح والتهليل قراءة آية الكرسي ، ويرجى له بذلك دخول الجنة إذا استقام ، إذا استقام على دينه ، وحافظ على دينه ، يرجى له دخول الجنة"
وتقرأ عند النوم ؛ وفي الصباح والمساء.
* فحري بالمسلم أن يتعلمها ويحفظها ، ويتدبر معناها ، ويعمل بمقتضاها، ويحافظ على قراءتها في مواطنها كي ينعم بفضلها.
اللهم إنا نسألك ن تجعـل القرآن الكريم ربيعَ قلوبنا .. ونورَ صدورنا ..وجَلاء حُـزننا .. وذهاب هـمِنا وغـمِنا .
ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة و في اللآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عبادَ اللهِ ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق