أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَيْسَ فِي كَلامِ العَرَبِ كَلِمَةٌ أَجْمَعُ للخَيرِ فِي الدَّارَينِ مِنَ النَّصِيحَةِ، فَلا عَجَبَ إِذَا حَصَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الدِّينَ فِي النَّصِيحةِ فَقالَ: “الدِّينُ النَّصيحَة“.
فلنا في رسول الله ﷺ الأسوة الحسنة فهو خير ناصح، وخير داعية، وقد كان ﷺ يوصي باللين في كل شيء، فقال «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ».
أيها المسلمون: لا أحد يَسلمُ من الخطأ والتقصير، فالخطأ واردٌ على الجميع.
لكنّ السؤالَ كيف العلاج ؟ كيف نصلحُ الخطأ ؟
فمن السبلِ لإصلاح الأخطاء بذلُ النصيحة، رغبة في الإصلاح والتقويم، لا (الإسقاط) ولا (التحطيم)!
والنصيحة باختصار: هي إخلاص الرأي من الغش وإيثارُ مصلحته، وهي من القلبِ للمنصوحِ كائنًا من كان، هذه هي النصيحة، وتلكم هي معانيها، فهل استشعرت أخي الكريم عندَ نصحِكَ هذه المعاني؟
ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمة الله عليه في رسالته ”الفرقُ بين النصيحة والتعيير” أمورًا ينبغي للناصح أن يعتني بها، منها:
أن يكون الناصحُ مخبرًا بعيبِ صاحبه (ليتجنبه) لا ليعيره ويفضحه، فإن التعييرَ بالذنبِ، وفضح المسلم بين الناس قبيحٌ مذموم.
والأصل في النصيحة أن تكون سرًا، قال الفضيل بن عياض “المؤمن يَستر ويَنصح، والفاجر يهتك ويعير”
وعلى الناصح أن يكون قصده إزالة المعصية أودفعها.
وينبغي على الناصحِ ألا يتتبع عورات المسلمين ومخازيهم، فمن تتبع عورات المسلمين، تتبع الله عورته ففي مسند الإمام أحمد وغيره قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ».
وعلى الناصحِ ألا يظهر الشماتة بمن ابتلي من المسلمين والصالحين، بل يدعوا ربه السلامة والعافية، فإن العافية لا يعادلها شيء، “ومن عوفي فليحمد الله”، وقال ﷺ «لاَ تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَخِيكَ فَيَرْحَمُهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ».
ومن الناسِ من يظهر النصح ويبديه، فيظهرُ الأمر في قالبِ النصح والإشفاق، وفي باطنه التعييرُ والأذى، مراده غرضٌ فاسد، وهوىً كاسد.
وينبغي للناصح أن ينزل الناس منازلهم، فالنصيحة للعالِم تختلف عن غيره، وكذا السلطان، أَوَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلاَ يُبْدِ لَهُ عَلاَنِيَةً وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلاَّ كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِى عَلَيْهِ لَهُ»
فليست النصيحة إليه ببث العيوب والمثالب أمام العامة، أومن على رؤوس المنابر.
وينبغي للمنصوح له أن يتقبل النصح، ويسعى في استدراك الخطأ، ويشد من أزر أخيه الناصح، فإن المحبة الصادقة هي التي دفعته لذلك وإلا لم يبالي بكَ كما فعلَ غيره.
أيها المسلمون: ولعل أهم تلك الشروط المتفق عليها في باب تقديم النصيحة:
إخلاص النية والقصد الحسن. واختيار المقام والمقال المناسبين؛ أي تقديم النصيحة في جو أخوي تسوده المحبة.
والابتعاد عن إشعار المنصوح بفداحة أفعاله والتنكيل به وتذكيره عمدا بسلسلة هفواته لإرهابه نفسيا.
والحرص على الانفراد به بعيدا عن أنظار الآخرين وإن كانوا أحبة.
والعلم بما ينصح به: فالذي يقوم بالنَّصِيحَة لا ينصح في أمر يجهله، بل لا بد أن يكون عالـمًا بما ينصح به، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾
وأن لا يجهر بنصيحته: بل ينبغي أن يسرَّ بنصيحته للمنصوح له، فلا ينصحه أمام الملأ:
بل ينبغي أن يسرَّ بنصيحته للمنصوح له، فلا ينصحه أمام الملأ: قال الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفرادي * وجنبني النَّصِيحَة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع * من التوبيخ لا أرضى استماعه
وإن خالفتني وعصيت قولي * فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
وقال أيضًا: (من وعظ أخاه سرًّا، فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية، فقد فضحه وشانه)
فاتَّقُوا اللهَ – عِبَادَ اللهِ -، والتَزِمُوا بِآدَابِ النَّصِيحَةِ، خَشْيَةَ أَنْ تَنْقَلِبَ إِلى فَضِيحَةٍ.
-------------------------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد أيها المسلمون: إن النصيحة إذا انقلبت إلى فضيحة تترتب عليها محظورات وآثار.
أولاً: عدم القبول لهذه النصيحة.
الأمر الثاني: تغير القلوب وحصول الشحناء والبغضاء، وشيوع سوء الظن والريبة بين الناس: فإن الذي فضحته لا شك أنه في الغالب يضمر لك في قلبه كرهاً.
وعن الحسن البصري أنه قال: من سمع بفاحشة فأفشاها كان كمن أتاها، وما تزال الفاحشة تفشو بين المؤمنين حتى تصل إلى الصالحين فهم خزانها. أي: يمسكون عن نشرها وإشاعتها لئلا يسهل على الناس ذكر مثل هذه الأمور.
قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أمام الناس: يا أمير المؤمنين: إنك أخطأت في كذا وكذا، وأنصحك بكذا وبكذا،
فقال له علي رضي الله عنه: ”إذا نصحتني فانصحني بيني وبينك، فإني لا آمن عليكم ولا على نفسي حين تنصحني علناً بين الناس".
فاتّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ -، وأَعطُوا النَّصِيحَةَ وتَقَبّلُوهَا مِنَ الغَيْرِ؛ فَهِيَ سَبِيلٌ لِلسَّعَادَةِ والخَيْرِ.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا)
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
اللهمَّ إنَّا نَعوذُ بك مِنْ زَوالِ نِعمَتِكَ، وَتَحوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقمَتِكَ.
اللهم ادفع عنا البلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ، اللَّهُمَّ وَعَلَيْكَ بِأَعْدَئِكَ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ وَاجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلَ مِنَّا صَالِحَ أعْمَالِنَا، وَاغْفِرَ لَنَا سَائِرَ ذُنُوبَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيْمُ.
﴿رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ﴾
﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ﴾
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ يَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق