الْحَمْدُ للهِ الذِي مَيَّزَ أَهْلَ
السُّنَّةِ بِالتَّسْلِيمِ لأَدِلِّةِ الْقُرْآنِ الْمُبِين، وَآثَرَهُمْ
بِالْهِدَايَةِ إِلَى دَعَائِمِ الدِّين، وَجَنَّبَهُمْ زَيْغَ الزَّائِغِين،
وَضَلالَ الْمُلْحِدِين، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَفَّقَ أَهْلَ الْحَقِّ لِلاقْتِدَاءِ بِسَيِّدِ الْمُرْسَلِين،
وَسَدَّدَهُمْ للإقتداء بِصَحْبِهِ الأَكْرَمِين، وَيَسَّرَ لَهُمُ اقْتِفَاءَ
آثَارِ السَّلَفِ الصَّالِحِين، حَتَّى اعْتَصَمُوا مِن الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
بِالْحَبْلِ الْمَتِين، وَمِنْ سِيَرِ الأَوَّلِينَ وَعَقَائِدِهِمْ بِالْمَنْهَجِ
الْمُبِين، فَجَمَعُوا بَيْنَ الصِّدْقِ وَاليَقِين، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا
مُحَمَّدَاً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهِ، دَعَا إِلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى حَتَّى
أَتَاهُ الْيَقِين، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ
الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِين، وَأَصْحَابِهِ وَمْنَ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى
يَوْمِ الدِّين.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا
الْمُسْلِمُونَ وَرَاقِبُوهُ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
وَاعْلَمُوا أَنَّ الْبِدْعَةَ: هِيَ الإحْدَاثُ فِي الدِّينِ عَلَى خِلافِ مَا
كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ وأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ
مِنْ عَقِيدَةٍ أَوْ عَمَل، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى (وَمَنْ
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ
مَصِيرًا) وقال ﷺ (مَنْ
عَمِلَ عَمَلاً ليسَ عليه أمرُنا هذا فهو رَدٌّ) رواه
مسلم
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَانَ مِنْ هَدْيِ
النَّبِيِّ ﷺ تَحْذِيرُ أَصْحَابِهِ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمْ مِن الْبِدَعِ وَمِنْ الإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ
عَلَى الْمِنْبَرِ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا
قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا خَطَبَ
احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلاَ صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، وَيَقُولُ (بُعِثْتُ
أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ ـ وَيَقْرُنُ بَيْنَ
إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ـ) وَيَقُولُ
(أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ
الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ
ضَلالَةٌ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
فَانْظُرُوا كَيْفَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ
يُحَذِّرُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مِن البِدْعَةِ مَعَ أَنَّهُمْ خَيْرُ
الْقُرُونِ وَأَعَلَمُ الأَمَّةِ عَلَى الإطْلاقِ، أَفَلا يَجْدُرُ بِنَا نَحْنُ
أَنْ نَخَافَ مِنْهَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَيُحَذِّرَ بَعْضُنَا بَعْضَاً؟
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: تَأَمَّلُوا هَذَا
الْحَدِيثَ، عن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: كَانَ
النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ الْخَيْرِ
وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ
بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ (نَعَمْ)
فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ (نَعَمْ
وَفِيهِ دَخَنٌ) قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ (قَوْمٌ
يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ
وَتُنْكِرُ) فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ
شَرٍّ؟ قَالَ (نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ
أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا) فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا! قَالَ
(نَعَمْ: قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا) قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ (تَلْزَمُ
جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ) فَقُلْتُ:
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ؟ قَالَ (فَاعْتَزِلْ
تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى
يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ) رَوَاهُ
مُسْلِمٌ.
فَهَكَذَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ كَانَ أَصْحَابُ
رَسُولِ اللهِ ﷺ يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِم الْفِتَنَ
وَلِذَلِكَ سَأَلُوا عَنْهَا لِيَحْذَرُوا مِنْهَا، لأَنَّ مِنْ لا يَعْرِفُ الشَّرَّ
مَا أَسْرَعَ أَنْ يَقَعَ فِيه!
وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللهَ
عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَضَى بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ
أَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ الإسْلامِيَّةَ سَوْفَ تَفْتَرِقُ بَعْدَ مَوْتِ
نَبِيِّهَا ﷺ إِلَى فِرَقٍ شَتَّى، وَالذِي عَلَى
الْحَقِّ مِنْهَا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ مَنْ تَمَسَّكَتْ بِهَدْيِ نَبِيِّهَا عَلَى
الْوَجْهِ الأَكْمَلِ، فَهَلْ نَحْنُ مِنْ تِلْكَ الطَّائِفَةِ النَّاجِيَةِ؟
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (افْتَرَقَتِ
الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ
وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي
الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى
ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ
فِي النَّارِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ (الْجَمَاعَةُ)
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ
اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (لَيَأْتِيَنَّ
عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعلِ بِالنَّعلِ
حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي
مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً،
كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً) قَالُوا:
وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ (مَا أَنَا
عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ
وَقَدْ دَأَبَ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ ﷺ
عَلَى إِبْعَادِ أُمَّتَهِ عَنْ الْبِدَعِ حَتَّى فِي أَوَاخِرِ حَيَاتِهِ بَلْ كَانَ
ذَلِكَ مِنْ وَصَايَاهُ الأَخِيرَةِ .
فَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً،
ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ
إِلَيْنَا؟ فَقَالَ (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ
وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ
مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي
وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا
وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ،
فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ
فَمَا أَحْسَنَهَا مِنْ وَصَيَّةٍ مِنْ رَسُولِ
اللهِ ﷺ!
فَفِي آخِرِ حَيَاتِهِ حَذَّرَ أَصْحَابَهُ مِنْ الْبِدَعِ، وَقَدْ وَقَعْتْ
هَذِهِ الوَصِيَّةُ مَوْقِعَهَا فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم،
وَلِذَلِكَ لَمْ تَقَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِدْعَةٌ حَتَّى لَقُوا رَبَّهَم،
بَلْ كَانُوا يُحَذِّرُونَ مِنْ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ وَيُنْكِرُونَ عَلَى
مَنْ فَعَلَهَا وَإِنْ حَسُنَتْ نِيَّتُهُ .
فَعَنْ مُجَاهِدٍ بنِ جَبْرٍ رَحِمَهُ اللهُ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ طَافَ مَعَ مُعَاوِيَةَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِالكَعْبَةِ وكَانَ مُعَاوِيَةُ لا يَمُرّ بِرُكْنٍ إِلا
اِسْتَلَمَهُ! ويقول: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْت مَهْجُورًا . فَقَالَ لَهُ ابْن
عَبَّاس (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَة) يَعْنِي وَلَمْ يَسْتَلِمْ إِلَّا
الْحَجَرَ الأَسْوَدَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ ـ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
صَدَقْتَ!!! فَانْتَهَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ عَرَفَ أَنَّهُ خَالَفَ
السُّنَّةَ .
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ قَالَ: اتَّبِعُوا وَلا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمَا
قَالَ: مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً،
وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً، حَتَّى تُحْيَى الْبِدَعُ وَتَمُوتَ السُّنَنُ .
وهذا صِدّيق الأمّة أبو بكر رضي الله عنه يقول:
(إِنَّمَا أَنَا مُتَّبِعٌ وَلَسْتُ بِمُبْتَدِعٌ، فَإِنِ
اسْتَقَمْتُ فَتَابِعُونِي، وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي)
فَرَضَيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ
وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَثْوَانَا وَمَثْوَاهُمْ!
جعلَنا اللهُ جميعاً مِمَّن يستَمعونَ القولَ
فيَتَّبِعونَ أحسنَهُ
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغِفُرُ اللهَ
مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم .
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَإِمَامِنَا
مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى
يَوْمِ الدِّينِ أَمَّا بَعْدُ: فَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أَنَّ
الْبِدَعَ فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا تَأْتِي فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُنَاسٍ
عِنْدَهُمْ حُسْنُ نِيَّةٍ و وَحُبٌ للْخَيْرِ، لَكِنْ عِنْدَهُمْ جَهْلٌ
فَيَقَعُونَ فِي الْبِدْعَةِ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا
مُبَرِّرَاً لِعَدَمِ تَأَثُّمِهِمْ وَلا لِتَرْكِ الإنكَارِ عَلَيْهِمْ، بَلْ
يَجِبُ الإنْكَارُ عَلَيْهِمْ وَإِرْشَادُهُمْ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ!
ثم اعلموا ـ إخوة الإيمان ـ أنّ شهرَ رجب من
الأشهر الحرُم التي يجب فيها تعظيم أمرِ الله وترك ما حرَّم الله جل وعلا (فَلَا
تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، ولكن لم
يثبُت أنَّ للعبادة فيه مزيّةً على غيره من الشهور، ولهذا قال الحافظ ابن رجب
الحنبلي رحمه الله في (لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف) (ص/130)- بعد
أن بيّن عدمَ مشروعيّةِ اتّخاذِه عيداً وموسماً؛ كما يفعله بعضُ النّاسِ-:
«ومن أحكامِ رجبٍ: ما ورد فيه من الصَّلاةِ،
والزَّكاةِ، والصِّيامِ، والاعتمارِ.
فأمّا الصَّلاةً: فلمْ يَصِحَّ في شهرِ رجبٍ
صلاةٌ مخصوصةٌ تختصُّ به، والأحاديثُ المرويةُ في فضلِ صلاةِ الرَّغائبِ فِي أوّلِ
ليلةِ جمعةٍ من شهرِ رجبٍ كذبٌ وباطلٌ لا تصحُّ، وهذه الصلاةُ بدعةٌ عند جمهورِ
العلماءِ، وممّن ذكر ذلك من أعيانِ العلماءِ
المتأخِّرينَ الحفاظِ: أبو إسماعيل الأنصاريُّ، وأبو بكر بن السمعانيِّ، وأبو
الفضل بن ناصر، وأبو الفرج بن الجوزيِّ، وغيرِهم، وإنّما لم يذكرْها المتقدِّمون
لأنّها أُحدثَتْ بعدَهم، فلذلك لم يعرفْها المتقدِّمون، ولم يتكلَّموا فيها». قال:
«وَأَمّا الصِّيَامُ: فلمْ يَصِحَّ في فضلِ صومِ رجبٍ بخصوصِه شيءٌ
عنِ النَّبيِّ ﷺ، ولا عن أصحابِه».
ثمّ قال: «وَأَمَّا
الزَّكَاةُ: فقدِ اعتادَ أهلُ هذِه البلادِ -يعني: بلادَ الشَّامِ- إخراجَ الزكاةِ
في شهرِ رجبٍ، ولا أصلَ لذلك في السنّةِ، ولا عُرِف عن أحدٍ من السَّلفِ».
ثمّ قال: «وأمّا
الاعتمارُ فِي رجبٍ: فقد روى ابنُ عمرَ رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ ﷺ
اعتمَر في رجبٍ فأنكرتْ ذلك عائشةُ عليه وهو يسمعُ فسكَتَ»
ثمّ قال: «وقد
رُوي: أنّه كان في شهرِ رجبٍ حوادثُ عظيمةٌ و لم يصِحَّ شيءٌ من ذلك فرُوي: أنّ
النّبيَّ ﷺ وُلِدَ في أوّلِ ليلةٍ منه، وأنّه
بُعث في السَّابعِ والعشـرِينَ منه، وقيل: في الخامسِ والعشرِينَ، ولا يصِحُّ شيءٌ
من ذلك، ورُوي بإسنادٍ لا يصِحُّ عن القاسمِ بنِ محمّدٍ: أنّ الإسراءَ بالنَّبيَّ ﷺ
كان فيِ سابعٍ وعشـرينَ من رجبٍ، وأنكَرَ ذلك إبراهيمُ الحربيُّ وغيرُه».
وبمثل قولِ الحافظِ ابنِ رجبٍ رحمه الله قال
كثيرٌ من العلماءِ المحقِّقين؛ فقد قال قبلَه العلّامةُ ابنُ القيِّم رحمه الله في
(المَنارُ المُنيْف) (ص/96): «وكلُّ حديثٍ في ذكرِ صومِ
رجبٍ وصلاةِ بعضِ اللَّيالِي فيهِ؛ فهُو كذبٌ مُفترى».
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "لم يرِد
في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيءٍ منه معيَّن ولا في قيام ليلة مخصوصة
فيه حديثٌ صحيح يصلح للحجة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "صلاةُ
ليلة السابِع والعشرين من رجب وأمثالها فهذا غَير مشروع باتفاق أئمة الإسلام، كما
نصّ على ذلك العلماء المعتبَرون، ولا ينشِئ ذلك إلا جاهل مبتدع".
وقد ابتدعوا في شهرِ رجبَ نسيكةٌ يسمّونها
(العَتيرة) والعتيرة هي ذبيحة كان يذبحها
أهل الجاهلية في شهر رجب , وجعلوا ذلك سنة فيما بينهم كذبح الأضحية في عيد الأضحى.
وقد اختلفَ العلماءُ فيها بين قوله ﷺ: (لا فَرَعَ وَلا
عَتِيرَةَ) متفق عليه؛ والفَرَعَ هو أول
ولدٍ للناقة كانوا يذبحونه لأصنامهم، وبين قوله ﷺ (العتيرةُ حقٌّ) النسائي
وحسَّنه الألباني؛ ووجّهُوها على العتيرةِ المشروعةِ التي تُذبحُ قربةً لله لا
لتعظيمِ رجب، والمنهيّ عنها هي التي أبطلها الإسلامُ وهي عتيرةُ الجاهليةِ.
ونسبوا ما قيل فيه من الأحاديث الضعيفة ما يروى
عن النبي ﷺ أنه كان يقول
إذا دخل شهر رجب: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ،
وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ).
هذا حديثٌ ضعيفٌ منكر، لا يصح عن النبي ﷺ، ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يدعو بهذا الدعاء،
لأنه لم يصح عن رسول الله ﷺ وإنما قلته
لكم لأنه يوجد في بعض أحاديث الوعظ، يوجد هذا الحديث فيها، ولكنه حديثٌ لا يصح عن
النبي ﷺ.
فاحذروا ـ عباد الله ـ ممّا ليس بمشروع، والزَموا السنة في
كل شيء؛ تفوزوا وتسعدوا بخيرَي الدنيا والآخرة. أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ
الوَاجِبَ عَلَيْنَا جَمِيعَاً الْحَذَرُ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ وَالتَّحْذِيرُ
مِنْهَا، وَتَجَنُّبُ مَا يُقَامُ فِيهَا وَمِنْ أَجْلِهَا، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ
وَجَلَّ يَقُولُ (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمَاً
نَافِعَاً وَعَمَلاً صَالِحَاً، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِنا دِينِنا الَّذِي هُوَ
عِصْمَةُ أَمْرِنا وَأَصْلِحْ لِنا دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا مَعَاشِنا وَأَصْلِحْ
لِنا آخِرَتِنا الَّتِي فِيهَا مَعَادِنا وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِنا فِي
كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِنا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ
صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ
وِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْ صَحَابَتِهِ وَعَنِ
التَّابِعِينَ وَتَابِعيِهِم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَعَنَّا مَعَهُم بِعَفْوِكَ
وَمَنِّكَ وَكَرَمِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ .