أما بعد فـ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
اتقوا الله عز وجل، وتفكروا في هذه النعم التي أمدكم الله بها ومن أهمها وأكبرها نعمة الإسلام، والأمن، والاستقرار والصحة والعافية في الأبدان ونعم رغد العيش، ونعمٌ كثيرةٌ، وصدق الله حيث يقول: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾
عباد الله: إن المتأمل لأحوال كثيرٍ من الناس في هذه الدنيا يرى العجب العجاب، يرى الهموم، يرى الغموم، يرى الأحزان، يرى المشاكل، تجد الواحد منهم مستعدًا أن يقاتل حتى أقرب الناس إليه من أجل ماذا؟ من أجل هذه الدنيا، من أجل الأموال، ومن أجل التجارات، ومن أجل الأراضي.
إن المتأمل لأحوال كثيرٍ من الناس لا يراهم يعيشون في هذه الدنيا راضين بقضاء الله وقدره، بل يزدادون تسخطًا على قضاء الله وقدره، لايكفيهم طعامهم ولايرضيهم لباسهم ولاتسعهم مساكنهم، بل هم دائمًا في سخطٍ على الله عزَّ وجل، يصبح أحدهم ويمسي ساخطًا على ربه، لا يقنع بقليلٍ ولا بكثير؛ كالذي يأكل ولا يشبع، لِمَ؟ لأنه طامحٌ ببصره دائمًا إلى من هو فوقه، إذا كان يسكن بيتًا نظر إلى من يسكن قصرًا،
إذا كان يركب سياره نظر إلى من يركب طائرة ،
إذا كان راتبه 10 آلاف ينظر إلى من ياخذ 20،
وهكذا لا يهنأ له عيش؟
إذن ما الحل؟ الحلّ هو ما علمنا وأمرنا به رسول الله ﷺ من القناعة، وعلّمنا إياها قولاً وفعلاً.
القناعة أن ترضى بما قسم الله لك من العيش، فتكون واثقاً ، مطمئن القلب، ساكن الفؤاد، رضيَّ النفس،
تعلم أن الأرزاق مكتوبةٌ مقسومةٌ، لا تزيد ولا تنقص،
وأعلم ـ يا عبد الله ـ أن الله يأمر بالقناعة، يأمرك ـ أيها المسلم ـ أن تكون قنوعًا: ﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾
أن يقرأ المسلم في القرآن أن الله سبحانه وتعالى مدح أهل القناعة: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ هؤلاء هم أهل القناعة.
ويقول الله عزَّ وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
أتدرون ما الحياة الطيبة؟
قال عبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب والحسن البصري رضي الله عنهم: (الحياة الطيبة هي القناعة)؛
أن تقنع بما رزقك الله من مال، أن تقنع بما رزقك الله من زوجة، أن تقنع بما رزقك الله من ذرِّيَّة، ان تقنع بما آتاك الله سبحانه وتعالى من مسكنٍ أو مركبٍ أو ملبسٍ أو مطعم، هذه هي القناعة التي يأمرنا بها ديننا.
نعم القنوع عزيز، القنوع هو أعزُّ الناس عند الناس؛ ولهذا قال ﷺ: (شرف المؤمن قيامه بالليل وعِزُّه استغناؤه عن الناس)
هذا المستغني عن الناس الذي لا يمدُّ يده، ولا يطمع فيما عند الناس ، هذا هو العزيز حقًا، هذا الذي رضي بما آتاه الله.
رسول الله ﷺ كان أعظم الناس قناعةً في هذه الدنيا، كان دعاؤه ﷺ: (اللَّهُمَ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ)؛
ولهذا كان أوسع الناس صدرًا، وأطيب الناس عيشًا، وأسخى الناس يدًا، وأرضَى الناس قلبًا، كان يمرُّ عليه الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيت أزواجه نار، وما لهم من طعامٍ إلا الأسودان: التمر والماء، كان يبيت الليالي طاويًا، لا يجد عشاءً، يتقلّب على فراشه من شدة الجوع، كانت حياته حياة الزهد،
زهدٌ في طعامه، زهدٌ في ثيابه، زهدٌ في فراشه،
ينام على حصيرٍ قد أثَّر على ظهره وعلى جنبه من خشونته ومن شدة ملمسه، كانت الدنيا لا تساوي عنده شيئًا، ما كان يعجبه من الدنيا إلا مؤمنٌ تقيّ، كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، بل وربَّى أصحابه رضي الله عنهم على القناعة، فلقد أوصى أبا هريرة رضي الله عنه قال له ﷺ: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا) يبين رسول الله أنّ القناعة في الرضا بما قسم الله عزَّ وجل، وشكره على ما آتى عبده من النعم.
ولقد حثَّ النبي ﷺ أمته على طلب القناعة بقوله: (انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه).
هذه وصية رسول الله، فمن أراد السعادة فعليه بالقناعة.
وقد قيل أن القناعة كنز لايفنى.
----------
الحمدُ لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلَّى الله عليْه وعلى آله وصحْبه وسلَّم تسليما كثيرا.
اما بعد فأيها المسلمون، إن الأهم فالغنى هو غنى النفس، ما قال ﷺ: (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ)
فرُبَّ إنسان يكون ماله كثيرا، لكنه والعياذ بالله جشعٌ طمَّاعٌ جمَّاعٌ منَّاعٌ، كالذي يأكل ولا يشبع، ورُبَّ إنسان آخر يكون رزقه يكاد يكفيه يكون فقيرًا قليل العيش لكنه مع ذلك قد جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، هذا هو الغنى، (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ)
ولو تأمّلنا في حياة كثير من الناس، في أحوالهم، وفي كلامهم، تجدون الكثيرين ممن فقدوا القناعة وابتلوا بالطمع والعياذ بالله، عندهم مال وبيوت وتجارة، وتجدهم يتحسرون على ما في أيدي الناس يتمنون لو أنهم مثل فلان وفلان، لايقنعون بما عندهم ولايحمدون الله عليه، لا يهتمون بأن يأكلوا الربا، لا يهتمون بأن يمنعوا الناس حقوقهم، لايهتمون بأن يأكلوا أموالهم بالباطل، لايهتمون يتحايلون على أخذ ما ليس لهم.
كالذي يأكل ولا يشبع، لا يملأ فمه إلا التراب،
وهؤلاء لا يسمعون لنصيحة ناصح ولا لشكوى متضرر.
فمن نصحهم قالوا حاسد ومن اشتكى قالوا حاقد.
عباد الله إن القناعة تجعل الحياة طيبه وتجعل القلب صافياً، كما قال ابن الجوزي رحمه الله: "من قَنعَ طابَ عيشُه .. ومن طَمع طالَ طيشُه".
ولنعلم أن كل منا سيسأله الله سبحانه وتعالى عن كل مال كثير أو قليل: من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟
اللهم إنا نسألك الحياة الطيبة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل قناعتنا في قلوبنا، اللهم اجعل الدنيا في أيدينا، ولا تجعلها في قلوبنا، واجعلها عونًا لنا على طاعتك يا رب العالمين،
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك،
اللهم اغفر ذنوبنا، وأصلح أعمالنا.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات،
وخصنا بمزيدٍ من الرحمات يا رب العالمين..
اللهم أنصر الإسلام والمسلمين
اللهم انصرهم ووحد صفوفهم وثبت أقدامهم
اللهم عليك بالطغاة الظالمين المعتدين.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
هذا وأكثروا من الصلاة على نبيكم ﷺ فقد قال الله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ونبيّك محمد، اللهم ارزقنا محبتَه واتّباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم اجمعنا به في جنّات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن جميع الصحابة والتابعين،
وارض اللهم عنّا وأصْلح أحوالنا كما أصلحت أحوالهم يا رب العالمين.
والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق